حمزه الحسن يكتب :القلوب الغليظة لا تصنع ثورة

كان الرئيس الجنرال ديغول يراقب من خلف نافذة قصر الاليزيه نزول الشباب من الجنسين مع العمال وكبار المثقفين للشوارع في ايار 1968 وباريس تحترق والنظام يتهاوى.
جنرال التحرير الذي قاد المقاومة الفرنسية ودخل باريس برأس مرفوع
في حين كان بقايا الغستابو الالماني الشرطة السرية النازية والعملاء
يطلقون النار على المحتفلين المنبطحين،
لكن ديغول أصر على المشي بلا انحناء رغم رجاء المحيطين ، مع ذلك وجد نفسه عشية آيار 1968 أمام حدث هزه وهز فرنسا كلها بخروج مظاهرات من جيل جديد،
ولم يحاجج بتاريخه المشرف لان ذلك واجبه. تاريخ الشخص السياسي ليس رصيدا مفتوحا الى الابد.
لم يتوقع الحدث فلاسفة فرنسا الكبار، الذين لم يتركوا الشباب الطلاب وحدهم في الشوارع،
فنزل سارتر يطالب بمحاكمة ديغول في الشارع الذي رفض
ذلك قائلاً:” لن أكرر لعنة فولتير”،
ونزلت معه سيمون دي بوفوار ومعهم فيلسوف الحداثة جيل دولوز والفيلسوف ألان باديو ــــــــــــ مؤلف : لغز مايو 68: لنا الحق في التمرد ” وعدد كبير من المثقفين.
لا يجوز ترك هؤلاء الأطفال الذين وجدوا أنفسهم راشدين ومتمردين على العائلة والقانون والثقافة والشرطة،
فقرر الجنرال ديغول المثقف والحكيم التخلي عن السلطة لأن زمن التحرير إنتهى وهذا الجيل يمتلك وعيأ مختلفاً،
يرفض التزييف العقائدي ويرفض العودة الى المنازل لكي يموت من الانتظار بلا عمل وحياة كئيبة. كانت أقسى أيام الجنرال، كتب ذلك صديقه الحميم أندريه مالرو الروائي ووزير الثقافة والفيلسوف في كتابه” سقوط السنديان:”
تجرع الجنرال الكأس المرة على يد جيل ناضل وكافح هو وقاد جيش التحرير ودخل باريس مرفوع الرأس من أجله ومن أجل فرنسا ومستقبلها الذي يشكل هؤلاء الفتيان جزءاً منه، فكان قراره شجاعاً في الاستقالة.
لم يقف الادب الفرنسي بعيداً عن جيل انتفاضة مايو 68 الذين صاروا حكماء وراقصين في الشوارع أمام الشرطة، كتب بيار دوشين روايته الرائعة الخالدة:
” الموت ،حباً”.
لخص فيها انتفاضة جيل من خلال قصة حب نقية بلا شعارات: المدرسة دانيال إبنة الثلاثين تقع في حب أحد طلابها هو جيرار أمام صلابة وقسوة ورفض المؤسسات،
لكن من يستطيع إعادة دانيال وجيرار الى القفص والقواعد والاعراف وحواجز الاعمار والحسابات الصغيرة وقد قررا في ربيع الحرية وصخب الساحات المضي في هذا الحب حتى النهاية،
لا تراجع أبداً والموت أفضل من الهزيمة.
وقفا ضد النظام والشرطة والقضاة والمدرسة والعوائل حتى بعد أن تم الانقضاض عليهما من كل الجوانب، من الأب خادم الدولة والشرطة وعلماء النفس؟
إتفق الجميع الشرطة والقانون والآباء الذين ضد النظام والذين معه على سحق هذا الحب النقي لكي يعودوا الى الطاعة، لكن من الصعب جداً إعادة قلب مشتعل الى الوراء.
ما الذي سيخسره هؤلاء في النهاية من علاقة حب؟ الحرية السياسية لا تتحقق بلا حرية الذات، بلا الحق في الاختيار والمسؤولية والعدالة والتحرر
من القيود الداخلية تتحول الحرية السياسية الى حرية قطيع في مرعى.
صحيح إنقض عليهما أعداء النظام وأنصاره لكن دانيال وجيرار قررا الموت على التراجع، فلا ثورة ولا تغيير بلا حب عميق لكن بفضلهما يمكن لقصة حب أخرى أن تبدأ، وقصة تاريخ جديد على وشك الولادة بخلق المثال والرمز.
هذا الفشل المتزامن للانتفاضة وفشل الحب ليس عفويا وعابراً ترك للقارئ العثور على الروابط دون خطابات وشعارات على طريقتنا في السرد. إن حرق باريس لأجل التغيير يعادل الانقضاض على العاشقين ومن الأطراف نفسها، من المؤيدين للنظام ومن الساخطين عليه. ربيع الحرية الفرنسي لا يتفتح بمجازر وحرائق ولا بقمع عواطف انسانية صافية بين شخصين لهما الحق في الاختيار والحق في صناعة المصير بلا أي أذى للآخرين.
يوم نشرت رواية” الموت حباً” شعر الفرنسيون أن الضمير الفرنسي
ما يزال حياً ويقظاً كما لو أن شيئاً منسياً عاد ثانية في عالم مادي أناني وبشع.
الثورة والتغيير والتمرد لا يتم من قبل أصحاب القلوب الغليظة، لا يمكن للذين يتركون خلفهم بيوتا على شكل معتقلات للنساء والاطفال ويريدون إسقاط النظام ـــــــــ بالمعنى الواسع للنظام وهم جزء جوهري منه ــــــــ لأن النظام ليس جيشاً وشرطة ومؤسسات فحسب بل عقلية.
“الخطأ الذي ارتكبه ثوار الباستيل، هو انهم كانوا يفتقرون الى الحب” بتعبير تولستوي وتلك العبارة وجدت في” يوميات البير كامو” التي نشرت بعد موته في حادث سيارة مريب في ثلاثة مجلدات.
لا يمكن الذهاب لاسقاط النظام بفتح مجازر وبقلوب مليئة بالغل والحقد والانتقام وبلا قصة حياة جديدة ستولد وتاريخ مختلف على وشك البزوغ.
نظام ما بعد 2003 ولد من رحم الدكتاتورية كما يولد الصل من الأفعى، كلاهما ولدا من تاريخ مشوه وتشويه الحقيقة يساوي تشكيلها على أسس مغايرة، بلا مشروع دولة ولا حداثة بل كان مشروع انتقام وتصفية حسابات وعقلية التملك للسلطة والثروة والحقيقة والشرف والناس، بل كان النظام نفسه قد دربهم على الثأر والحقد والغنيمة لأنهم دخلوا في صراع مع النظام بأساليبه نفسها وليس بمشروع مضاد: أنتج الوحش وحوشاً.