التذوق اللحني للكلمة في المثلث لحج – عدن – أبين ** بعدت عني باختِيَارَك قراءة؛ أ.علي محلتي

التذوق اللحني للكلمة في المثلث لحج – عدن – أبين
**
بعدت عني باختِيَارَك
قراءة؛ علي محلتي
كلمات الشاعر الخلوق محمد حسين الدرزي
لحن وغناء الفنان الكبير سعودي أحمد صالح
(في أمسية تكريم إبن لحج الغالي الإعلامي عادل مبروك في ليلة رمضانية من قبل فرع اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في لحج سلمت هذه الورقة للأستاذ الفنان الكبير سعودي بهدف اختبار حقيقة ما ورد في الورقة هذه وقد طلبت منه أن يقرأها عند عودته إلى منزله. وبعد انتهاء التكريم بحثت عنه بعد التكريم فأخبرني الأستاذ هاشم علوي هود بأنه قرأ الموضوع ونهض فظنناه ذهب للتبول وتفاجأت بأنه أرسل أحد تلاميذي بأن أستجمع له قاته وسيجارته وولاعته في كيس الدعايا له.
وحين وصلت منزلي في المنصورة بعدن اتصلت به في الثالثة فجرا لأطمئن عليه فرد مباشرة بنشيج بكائه بأنني (تابعته وهو يلحن كلمات تلك الأغنية في كل مكان بما فيها فراش نومه فضلا عن الشارع ومجالس قاته وهو يفكر بصياغة ذلك اللحن الخالد).
**
في أغاني لحج رقـَّةٌ صادِقـَةٌ قرأنـَاها في الأديب والفنان الشاعر الكبير محمد حسين الدرزي، ولدينا سؤالٌ نتـَوَجَّهُ بـِهِ إلى كلِّ مَن عرف هذا الهَرَمَ الجميل:
هَلْ رَأيتَ محمد حسين الدرزي يوما عابساً؟
وحَذار من المُجامَلـَةِ، إنـَّهُ مِثلُ رديفِهِ الرَّقيق قلباً وجسماً وقلماً وعقلا الأستاذ المربّي والمعلـِّم الفنان الكبير سعودي أحمد صالح، وهذانِ الرَّديفان يمـَثـِّلان الوجهَ الحقيقي لابنِ لحج في التـَّوَاضع والصبر فوقَ الجراح فما أعظم كِبرياء القِيَم عندَ هذين الصديقين الصدوقين…….
لكلِّ إنسانٍ الحق في الاتـِّفاقِ والاختِلاف معنا في الرأي والملاحظات بل في كلِّ شيءٍ، ولكن كلُّ من اشتغـَلَ في صنع الألحان متذوِّقٌ بامتياز ولن نجادلَ في كيفِيَّةِ صِيَاغتِهِ اللحن، لأنَّ ذلك شَأنٌ يعود إليه ولكن الملـَحنينَ الكبار لهم ما يُمَيِّزُهم، فالحفاظ على المستوى الذي وصلوا إليه أمرٌ يظل يُعَزِّزُ من رصيدِهم في هذا المجال، ولا بأسَ إن كانوا مُقِلـِّينَ في إنتاجهـِم، فإن تابَعتَ عزيزي القارئ أحداُ مِمَّن تعرف فإنـَّكَ تستحِقُّ أن تـُحلـِّقَ معهُ في فضاءٍ عذب من التمتـُّع بالألحان الشَّجيَّة.
الفنان الجميل الأستاذ سعودي أحمد صالح أثرَى مكتبَة الطـَّرَبِ والموسيقـَى برَوَائعَ عظيمة، فكانَ ذا أسلوبٍ مُتـَمَيِّز، وله الفضل في الحفاظ على أصالـَةِ التـَّذوّق للطـَّربِ السماعي على طوال سِنِي حياتِهِ الفـَنـِّيَّة، بل إنـَّكَ تجدُ هذا الهرم اللحجي المتـَألـِّق قدِ اعتـَلـَى قائمةَ المُلحنين منذ زمنٍ ليس بالقصير، وذلك يعودُ بالتـَّاكيد إلى كونِهِ الوارثُ عن قـُرْبٍ الأوفـَرَ من أرصدَةِ مجالس التذوّقِ للكلمة والموسيقى، لمَن سبقوهُ وعاصروهُ حتى اليوم، وهو فنان مرهَفُ الحسِّ، جيِّدُ الاستماع والتجاوب للنقد البنـَّاء، فحافظ على اسمِهِ فراكـَمَ عطاءَهُ المتميِّز، ليكسَبَ حرصَ الجميع فإن خطبَ ودَّه المقرَّبون منه، فـقد َيَهجُمُ الآخرون على أنتاجهِ سطواً، ودون استئذانٍ في معظم الأحيان، إلاَّ أنـَّكَ تستـَشِفُ كِبرياءَ الرجل مُسامِحا مقهوراً أكثرَ منه مطالباً بالحقوق الأدبيَّة. سعودي أحمد صالح في أغنِيَتِهِ (بعدت عني باختيارك) يُظهـِرُ بَرَاعَةً تسمَحُ للحن يُعَبِّرُ عن الكلِمَة، فالأداءُ الذي يُوحي بالألـَمِ المُتـَناغِمِ معَ روح تـَأثـُّرِهِ بالحزن، جعَلـَهُ يجدُ في العُنوان (بعدت عني باختيارك) فـُرصَةً في استحضار المعاني لِفـَحوَى المقاطِعِ وإن تـَغيَّرَتْ رُؤَى كلِّ مقطعٍ في التـَّعبير عن معاناةِ الكلمة، لِيُخرجَها اللحنُ وقد استحالت من الشاعر الكبير محمد حسين الدرزي إلى الفنان الكبير سُعودي أحمد صالح هادئَةً في حديثٍ جميلٍ مع الرُّوح وإن كانَ المطلـَعُ خِطابيّاً مع الحبيب إلاَّ أنَّ السعودي أدركَ أنَّ ذلكَ عبرَ رسالـَةٍ وليسَ في حضرَةِ الحبيب، حيثُ أتى ما بعدَ المطلـَع في المقطع الأوَّل بـ (الانتظار والشَّوق والسؤال حتى في دائرَةِ الشكِّ فيما إذا كان هُو أيَ المُلـَحِّن سبَبَ ابتِعادِ الحبيب ولـَمَّا لم يجده عَرَفَ فخاطـَبَهُ عن بُعدٍ (بعدت عني باختيارك) مع إبلاغِهِ الحبيب المكانـَةَ التي يحظـَى بها بكـُلِّ ثِقـَةٍ في القرار لمنتهى أدائهِ لـ (يَا نـُور عيُوني) وهذا يعكس مدى حزن اللحن لما قبلـَهُ في:
سنين طويله أشتاق إليك
في كل ليله أسأل عليك
فتـَبَدَّت حيرَةُ الألـَم في أدَائهِ لـ:
سألت عنك حتى ظنـــوني
ليَأتي انكسارُ الخاطر من خلال:
وعرفت أنـَّك يا نور عيوني
حتى جاءت (بعدت عني باختيارك) تقفيلة رائعة تؤكد أن طرفها الحبيب لا المحب الرقيق المشاعر الصادق في الأداء لمفاصل اللحن المعبر.
ألا قرَأتَ النصّ للمقطـَعِ الأوَّل:
بعدت عني باختــــيارك
وعشت عمري في انتظـارك
سنين طويله أشتاق إليك
في كل ليله أسأل عليك
سألت عنك حتى ظنـــوني
وعرفت أنـَّك يا نور عيوني
بعدت عني باختيارك
في المقطع الثاني تـَرنِيمَةُ الألـَمِ مع الذات في كِتـْمانِ الآهات في مطلـَعِ المقطع الثاني:
كتمت آهاتي وحنيني
في حين البيتِ الثاني جاءَ مشحوناً برفعِ نـَبرَةِ اللحن المستـَغِيثـَةِ :
في فؤادي يا ضنيني
لِيَأتِيَ بفـَحوى رسالـَةٍ فيها ما آلَ إليه من حرمان النفس عن نعيم الحيَاة، وسَبحَتِها في سجلِّ الماضي ولكن الفنان الكبير أوصَلـَها كالذي يَجهَشُ بالبُكاء ولكنـَّنا أحَسَسنا نـَبرَةَ القهرِ المُطبـِق في:
حرمتِ نفسي نعيم حـياتي
وعِشتِ أمسي وذِكـرَياتي
ليَأتِيَ بالنـَّفي للشَكـوَى وللبُكاء، فأوصَلَ لنا بذلكَ الأداء للنبرَة أنـَّهُ فعلاً يعيشُ آمالاً بآلامِ القهر والحرمان، فنراهُ مُرَاوحا بينَ الكبرياء والقهر كالذي يذهبُ خـُطـُوات ويَعود والعبْرَةُ إن لم يكن قد دارَى دَمعَةً كادت تخنـُقـُه مُلتـَفِتاً جانباً وقد ساعد مَدُّ كلِمَة (بكيت) لِيوحِيَ بقدرتِهِ على مواجهَةِ الضَّنين فكان موفـَّقاً بقـُوَّةٍ في عدم الشـُّكاء من البعاد وعدم البُكاء من عناد الحبيب:
من بعادك ما شكيت
ومن عنادك ما بكيت
وفي عودَةِ مواجهَتِهِ تلك هَيَّأ المستمع لِمُفـَاجأةٍ حمقاء غيرَ أنَّ جمالَ السعودي أتى بـِرقـَّةٍ عذبَةٍ في التقفيلـَةِ التي يقولُ مذكـِّراً الحبيب بها دونَ النـَّظـَر إليه وكانت:
بعدت عني باختيارك ،
فهلاَّ عزيزي قرأتَ معنا نص المقطع الثاني:
كتمت آهاتي وحنيني
في فؤادي يا ضنيني
حرمتِ نفسي نعيم حياتي
وعِشتِ أمسي وذِكرَياتي
من بعادك ما شكيت
ومن عنادك ما بكيت
بعدت عني باختيارك
إنَّ الفنان سعودي أحمد صالح أدرَكَ مغزى كلِمَةِ (إذا تجيني) في المقطع الأخير التي أتى بها في كبرياءِ جملـَةٍ موسيقيّة وبنبرَةٍ استجمَعَت كلَّ ما لـَدَيهِ من مُدَارَاةِ لآلامِهِ فجعَلـَها حَدِيثا عابراً وكأنَّ الأمرَ مطابقا تماماً لعنوان الأغنيَةِ القائل (بعدت عني باختيارك) فتركَها تعَبِّرُ دونَ اهتِمام بقولِهِ (إذا تجيني) إلاَّ أنـَّهُ أسرَعَ في ما بعدَها مُعبِّراً عن حركةٍ حثيثةٍ وراء الحبيب حتى لا يحدثُ الشدُّ والجذبُ بينهُ وبينَ الحبيب إذا ما اكتشَفَ الحبيبُ عدَم اهتمام الكبرياء في النص اللحني بنبرَتِه لعبارَةِ (إذا تجيني)، فقد أسرعَ مقفِلاً أبوابَ الاعتذار والعِتاب فإذا بالعِبَارَةِ اللحنيَّةِ لِـ (تـُبَا السَّماح) فيها شُحنـَةٌ من نِداء أكثـَرَ منها استِفسارٌ أو سؤالٌ عابرٌ فتـَمَيَّزَ البيتُ الأوّلُ من المقطع الأخير بصورَةٍ لا يُمكنُ لهُ أن يُكـَرِّرَهُ منفردا (وإلا كان معبرا عن تهديد تصحبه حركة الإصبع السبابة) ولهذا أوحى للحبيب بأنـَّهُ قد سَمِع اعتذارَهُ، ولكن في الحقيقةِ هو يخشى منه استمرارَ اختيارِهِ البِعاد، لذلك باشَرَهُ في البيت التالي من المقطع:
سماح وما قد راح راح
وكانَ على عَجَلٍ فيه، مُبَرِّراً الاستعجال بما يَكـُنـُّهُ، من حبٍّ جارف قد يخسرُهُ إذا ما اكتشَفَ الحبيب معنى العبارَةِ الجافـَّةِ في:
إذا تِجيني تـُبَا السَّمَاح
فهو يقولُ فيها للحبيب بما معناهُ لا دَاعي حتى للاعتذار:
سماح وما قد راح راح
بينما يقولُ فيها لنفسِهِ: (كم أخشَى أن ينسى الحبيب حجم القهر والمُعاناة التى وردت في سياق لحني المقطعين الأوّل والثاني وبالتالي الإطباق الجاف في:
إذا تِجيني تـُبَا السَّمَاح
فقد جاءت عبارَة:
سماح وما قد راح راح
استدراكا سريعاً لا داعي من بعده للتـَّأويل في:
واللي يحب يسمح حبيبه
مهما تعب يرضى نصيبه
فيزيد من التمويه على آثار اختناقِه بملاطفـَةٍ تمتصُّ ما وقع فيه من جرح مشاعِر الحبيب، لم يظهر في النص وظهَرَت في اللحن كما ذكرنا قبلاً وهو تمويهٌ ظاهر بنبرَتهِ:
انت حيـاتي رضيتِ بك
وانتَ حبيبي من غير شَك
ولهذا عزيزي القارئ والمستمع جاءت التقفيلـَةُ:
بعدت عني باختيارك
مؤكـِّدَةً كلَّ قراءتنا بأنـَّك أيُّها الحبيب لن أغصُبَك على البَقاء في عهد حبِّي ولكنَّ اختيارَكَ البُعد شأنٌ يخـُصُّكَ أنتَ.
لقد أوحى الفنان الجميل سعودي أحمد صالح بأنَّ الأديب والشاعر الكبير محمد حسين الدرزي كانَ عنيداً وصعبَ المِراس في الثـَّوَابت، ولكنـَّهُ لا يسمح لنفسِهِ أن يُجَرِّحَ غيرَه، حتى وإن بعثَ بما أرادَ أن يتحدَّثُ بهِ دون لـُغـَةٍ أو كلام، أحسَسناهُ من خلال اللحن الخالد للسعودي المتـَألـِّق والمُجهَد في صوغ اللحن الذي أوفي بكلِّ سلوكٍ حقيقي للشاعر المناكف بالحبِّ والمحافظ على بقاء ما يحفظ له الكرامة ولكن بالحبِّ أيضاً، يبدو أنَّ الرَّجُلـّين الشاعر محمد حسين الدرزي والفنان الكبير سعودي أحمد صالح، متطابقـَين تماما في هذا السلوك الحياتي لهما فهما مقهارَان ولكنهما صادقان في التعاطي مع كلِّ من حولـَهُما ولا يعني هذا أنـَّهُما يفضحان المخزون من الآلام في المكاشَفـَةِ المغـَلـَّفـَةِ بالاستدراك الجميل منهُما فهما لا يرغبان أن يحمل أحدٌ مهما كانَ هذا الأحد أي انطباع بعيدا عن مكنون حقيقة الحبِّ الذي يختزنانهِ لمن حولـَهما فهلاَّ قرَأتَ معنا نص المقطع الأخير:
إذا تِجيني تـُبَا السَّمَاح
سماح وما قد راح راح
واللي يحب يسمح حبيبه
مهما تعب يرضى نصيبه
انت حياتي رضيتِ بك
وانتَ حبيبي من غير شَك
بعدت عني باختيارك
فاهمسوا معنا في أذن الحافظ للعهد اننا نسألُ اللهَ أن يرعاكَ بعنايتِه ويُمدِدُك بالصِّحَّة والسلامة والسعادة في الصبر الجميل…أما أديبنا وشاعرنا الكبير الجميل فقيدنا الأستاذ محمد حسين الدرزي فنسأل الله له ولكل أمجاد الشعر والطرب والغناء اللحجي المغفرة والرحمة والرضوان. آمين يا رب.
ملاحظة: الموضوع كتب في ٢٠٠٧ واستلمه الفنان سعودي رحمه الله في ليلة رمضانية تم فيها تكريم الأستاذ الإعلامي الكبير عادل مبروك مدير عام إذاعة لحج رحمهما الله.
***
رحمهم الله جميعا وأمواتنا..ٱمين يا رب