لغة ما وراء الحواس.. شعر: سابرينا عشوش

“لغة ما وراء الحواس”
“أتيتُ لأُقفلَ النوافذَ الثلاث.
كتمتُ في جُبِّ حنجرتي صرخاتٍ تُشبهُ ارتطامَ الكواكب،
حبستُ أنينَها كي لا يرى العالَمُ تَشظّي قلبي على جدارِ الغياب.
أسدلتُ على مرايا عينيَّ وشاحًا من صبرٍ،
كي لا يفضحَ البريقُ احتراقاتي الدفينة.
صِرتُ أعمى عن مواجعَ لا تُرضي روحي،
وأبكمُ عن جُرحٍ إن نطقتُه شقَّ صدورَ أحبّتي،
وأصمُّ عن ضجيجٍ يشرخُ طُهرَ أعماقي.
آثرتُ ابتلاعَ الغصّة؛ عَلقمٌ يَلِجُ بُلعومَ النُّطق،
كي لا أَغرِسَ سهمًا في كتفِ مَن جلسوا على عتبةِ قلبي.
أنا التي حملتُ وجعي حطَبًا في صحراءِ الذاكرة،
لم أُوقِدْ به نارًا،
بل تركتُه يتحوّلُ إلى رمادٍ في داخلي،
علَّهُ يضغطُ الفحمَ في صدري حتى أصيرَ صخرةً لا تَنهار.
غَضَضتُ بصري لا عجزًا؛ بل كأنّي أُطفئُ شُهُبًا قد تُحرقُ روحي،
فالعيونُ بوّاباتُ نارٍ، وإغماضُها حِراسةُ جنّتي،
بل إنّ الإغماضَ — حين يَصفو القصدُ — ضربٌ من الإبصار.
وصمتُّ… لا لأنّ الكلامَ عجزٌ، بل لأنّ الحرفَ سكينٌ إذا تهافت،
فالسكوتُ ليس فراغًا بل امتلاءٌ بالرضا،
وحُكمٌ يسبقُ النطقَ إلى موضعِه فلا تُطحَنُ المعاني.
وتعمّدتُ ألّا أسمعَ ما يدنّسُ قلبي؛
فالأُذُنُ نافذةُ الروح، وقد أوصدتُها
كي لا يَسري العَطَنُ إلى دمي من رطوباتِ الأصوات.
أنا أعمى بإرادتي، أبكمُ باختياري، أصمُّ عن وعي،
لكنّي أُبصرُ ما لا يُبصره المبصرون،
وأسمعُ صمتَ النجومِ حين تفكِّر،
وأتكلّمُ بلسانٍ لا تُدركه الحناجر.
هكذا أملكُ جوارحي:
أكفُّ البصرَ عن السقوط، واللسانَ عن الجَرح، والأُذُنَ عن الوَحل،
فأخرجُ من نفسي إلى نفسي… أكثرَ صفاءً، وأشدَّ قدرةً على الرضا.
فصرتُ أُخفي نزيفي كما تُخفي الأرضُ براكينَها،
حتى إذا تنفّستُ… تَصاعدَ الرمادُ دعاءً يطرقُ أبوابَ السماء.”
سابرينا عشوش