كتاب وشعراء

رؤية بقلم أ. سما سامي بغدادي عن نص [السيمفونية الأولىٰ للحب] أشرف شبانه

النص
*****

أَهُوَ التشابهُ الذي..
أوقعنا بأغنيةِ حبٍ سرمديّة؟!
لتكوني معزوفةً سحرية،
تُزهِرُ بالروح،
تنبضُ بالانتعاش
و أكونُ نوتتَكِ الموسيقية؛
فنتراقصُ علىٰ ألحانٍ خفيّة.

تتأرجحين بينَ ذراعيّ،
تتمايلين في بهجةٍ،
ملءُ عينيكِ دهشةٌ،
تعزفين مقطوعةً سماويّة.
كقَصَبةٍ بيدِ مايسترو.. ،
في مهبِّ النغم،
تتموَّجُ حيثُ شاء،
فتستجيبُ الأوركسترا،
طاعةً للحبِّ خالصةً نقيّة

أم هوَ الاحتواء؛
يتوسدُ كفُّكِ.. كفِّي
نفيضُ بالامتلاء
تداعبين قيثارةَ الروح؛
و علىٰ العزفِ؛
تصيرُ دنيانا أُغنيّة.

ألأنَّكِ ياسمينةٌ بنافذتي،
و أنا من عبقَ بفوحِكِ،
فتدفقنا معًا..
علىٰ جبين الفصول،
عِطرًا نديًّا؟!
أم لأنكِ طائرٌ؛
تحلّقين بسماءِ عُمري،
وأنا أتتبعُ رفرفتَكِ..
بكلِّ الفضول،
منذ البدءِ… للأبديّة.

يا من تسبحين بروحي..
دونما انقطاع،
سمكةٌ لا تعرف النوم،
أنا النهرالذي..
لا يقبلُ الانصياع؛
لاأستطيعُ مَنعَكِ من العوم،
و لا أستطيعُ القبضَ عليكِ؛
فكيف أغفو ! ،
و أنتِ مُصيبتي بالسهرِ ليليّا.
***

أ يكون التكاملُ الذي فعل!
قمرٌ ..؛
يعانق صورتَه بالمرآة،
ليسيلَ المساءُ،
نورًا بهيًّا؛
فتصيري همساً من قُبَل،
و أنا بصمتِ الإنصات،
اقتطفُ الحنينَ..
غضاً طرياً.

ألأني سببٌ في ابتسامِكِ،
نتشاطرُ الضحكةَ،
بعد دمعةٍ شجيّة،
حتى إذا ما استراحَ..
وجهُ الكون،
بلغنا التماهي سويّا؟!.

أم لأننا مجازٌ واحدٌ،
من أبجديّةٍ غير الأبجديّة،
صارت الرقصةُ قصيدةً؛
لا تُشبهُ المألوف،
بمدادٍ غير المداد،
بحروفٍ غير الحروف،
لا نعرفُ أين بدأَ حرفُكِ،
و لا أين انتهىٰ حرفي،
و لا مَن كتبَ؟ أنتِ… أم أنا؟
لانعرفُ متىٰ، و لا كيف؛
رسمنا أحلامَنا الورديّة!.
***

ملهمةٌ أنتِ،
و أنا السطرُ والقواف،
نغمةٌ؛
و أنا العزفُ والارتجاف،
لحنٌ روحانيٌّ،
والأنفاسُ موسيقيّة،
عاشقينِ صرنا؛
بفَلكِ سيمفونيّة!.
***

ربّما لا هذا ولا ذاك،
بل القدر؛
الذي مزجَ روحَيْنا…
و انتظر؛
حتّى تلاشت المسافاتُ..
الزمانيّة والمكانيّة،
فانطلقنا معاً؛
لنحلِّقَ بفضاءاتٍ كونيّة.

أشرف شبانه
*********

الرؤية نقدية الانطباعية
……………………………….
يُعَدّ الشاعر شبانه من الأصوات الحداثية اللافتة التي استطاعت أن تزاوج بين أصالة الروح العربية ووهج القافية المفتوحة، لتقدّم نصوصًا تملك أثرها الخاص في المشهد الشعري المعاصر، إذ تمثل كتاباته امتدادًا طبيعيًا لمدرسة الشعر الحر الرصين، وفي الوقت نفسه قفزة نحو صياغات شعرية أكثر إشراقًا وتأثيرًا. فهو لا يكتفي بإعادة إنتاج النبرة الوجدانية للشعر العربي الحديث، بل يضخ فيها روحًا جديدة قائمة على حساسية موسيقية داخلية وبنية رمزية شفافة تجعل قصيدته أقرب إلى سيمفونية متكاملة الأركان، تتعدد فيها الطبقات الصوتية والدلالية، وتتعانق اللغة بالمعنى على نحو يشي بملمح حداثي يكاد يشكل مدرسة شعرية خاصة.

وإذا تأملنا النص موضوع الرؤية وجدنا أنّه ينهض على أبعاد متشابكة، تتكامل لتشييد نسيج شعري غني. فالروح الوجدانية التي تغمره تتجلى في فيض العاطفة التي لا تنحصر في حدود الحب العابر، بل تنفتح على سرمدية الشعور، لتجعل من الحبيبة أيقونة متحركة تتبدل صورها بين النغمة والطائر والياسمينة والسمكة، بينما يقابلها الشاعر في صورة النهر أو العزف أو الصمت، فيتحقق التكامل الوجداني في ذوبان الثنائية وتحوّلها إلى وحدة لا تنفصل. على هذا المستوى حيث يبدو النص كرحلة داخلية تصوغ الوجدان في صورة بحث مستمر، يتردد صداه في الاستفهامات المتكررة “أم لأنكِ…؟”، حيث يفتش العاشق عن سبب المعجزة التي جمعت بين الروحين.
أما البعد الروحي فيتجلّى في انفتاح النص على فضاءات تتجاوز الجسد والزمان والمكان، ليصبح الحب مسارًا صوفيًا للتجلي، تتسع به اللغة حتى تحتضن إشراقات كونية: قمر يعانق صورته بالمرآة، فضاءات كونية تحلق فيها الأرواح، وأبجدية غير الأبجدية تتشكل من وحدة الحرفين والروحَين. وهنا لا يكون الحب إنفعالًا وجدانيًا فحسب، بل انكشافًا نورانيًا يُفضي إلى الخلاص من الثنائية، حيث لا تُعرف بداية الحرف من نهايته ولا الكاتب من المكتوب، فتذوب الأنا والآخر في كيان واحد محمول على إيقاع القدر.

ويتأسس النص بلاغيًا على شبكة واسعة من التشابيه والمجازات التي تمنحه ثراءً دلاليًا ورمزية عالية. فالحب يتحول إلى معزوفة، والرقصة إلى قصيدة، والأنفاس إلى موسيقى، بينما تحتشد الصور لتشييد فضاء رمزي متعدد الطبقات، يكاد كل رمز فيه يقود إلى رمز آخر، في حركة دائمة تحاكي صيرورة الوجود نفسه والحركة الديناميكية للبنية الداخلية التي تصعد في الرؤية العامة للمضمون الشعري والتجلي الجمالي لروحانية العشق بين العاشق والمعشوق وسط هذا التماهي الحر وأنسنة الشعور ليتجلى وسط مسميات كونية متعددة . وفي هذا الانفتاح المجازي يتبدى الأسلوب الحداثي للشاعر، القائم على انتقائية المفردة وتطعيمها بظلال صوفية ورمزية، فتخرج الكلمة من أسر معناها المعجمي لتصبح أداة إضاءة ونافذة على اللامرئي.

أما الموسيقى الداخلية في النص فهي تنساب وتشرق بكثافة حسية مبهرة تعزز جمالية النص وانسيابه الدراماتيكي ، فهي العمود الخفي الذي تنتظم حوله القصيدة، إذ يتولد إيقاعها لا من القافية الخارجية وحدها، بل من التكرار البنائي والتنغيم الصوتي والتوازي التركيبي، بما يشبه نوتات موسيقية تتداخل لتشكل سيمفونية شعرية متكاملة. التكرارات الدائرية من قبيل “لا نعرف” و”أم لأنكِ” تضفي على النص حركية إيقاعية، والمدود الطويلة تفتح للنفس مجالًا للتأمل، بينما الانسياب السلس للجمل الشعرية يشي بانسياب داخلي لا يعرف الانقطاع، يوازي المعنى الروحي في لانهائيته.

ومن زاوية تفكيكية، يمكن القول إن النص يشتغل على تفتيت الحدود بين الأضداد: بين الأنا والآخر، بين الصوت والصمت، بين الواقع والمجاز، وبين البداية والنهاية. فالشاعر يطرح الحب لا باعتباره علاقة خطية يمكن إدراك منطلقها ومنتهاها، بل باعتباره حالة انفلات من كل تحديد، حيث تتلاشى الضدية في نسيج واحد. هذا التفكيك للبنى التقليدية يعكس روح الحداثة في نص شبانه، حيث تتحطم الأطر الصلبة لصالح سيولة شعرية قادرة على احتضان التناقضات وتجاوزها في آن واحد.
هكذا يغدو النص في مجمله سيمفونية شعرية روحية وجدانية، تجمع بين الأبعاد البلاغية والرمزية والموسيقية في بناء واحد، يعيد تعريف الحب كحالة وجودية تتجاوز حدود الزمان والمكان، ويقدّم تجربة شعرية لا تُشبه المألوف، إنما تؤسس لرؤية حداثية عربية متجذّرة في أصالتها ومنفتحة على رحابة التعبير الكوني. إنّ أسلوب شبانه في انتقاء المفردة وبناء الصورة وتوليد الإيقاع يجعل من نصوصه علامات فارقة في الشعر المعاصر، ويؤهله ليكون صوتًا حداثيًا بارزًا، بل وملامح مدرسة شعرية قائمة بذاتها.

خاتمة
*****
إنّ ما يقدّمه الشاعر شبانه لا يقتصر على نصوص شعرية مؤثرة وحسب، بل ينهض بوصفه مشروعًا فنّيًا متكاملًا، يسعى إلى صياغة ملامح تيار حداثي عربي متفرّد، يربط بين أصالة الموروث الروحي والوجداني وبين التجديد البنائي والبلاغي، ليؤسس عبر تجربته لما يشبه “مدرسة شعرية سيمفونية” تنفتح على الكوني وتستند إلى جذور عربية راسخة. ومن هنا تأتي أهمية نصوصه، فهي ليست مجرد مقطوعات شعرية وبلاغية ، بل إشراقات جمالية وروحية ومضامين إنسانية و وجودية وفلسفية عالية ترتقي بالوعي الانساني ، و تُعيد للشعر العربي مكانته كصوت للحب والروح والكون، وتقدّمه بلغة معاصرة قادرة على ملامسة وجدان القارئ العربي في زمن تتنازع فيه الأصوات وتتباين فيه الاتجاهات. وبذلك يظل شبانه شاهدًا على أن الحداثة ليست قطيعة مع الماضي، بل إمتداد أصيل له، ينهض على الوعي بالموسيقى الداخلية والرمز الروحي، ليمنح القصيدة العربية أفقًا جديدًا متفردًا.

أ.سما سامي بغدادي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى