رؤي ومقالات

إبراهيم نوار يكتب:رغم الثروة الهائلة من النفط والغاز: المنطقة العربية تعاني من غياب أمن الطاقة

يواجه عدد غير قليل من الدول العربية، النفطية مثل العراق، أو غير النفطية مثل المغرب والأردن، أزمة طاقة فعلية، تتمثل في نقص الإمدادات، وعدم تنوعها، وعدم وجود بنية أساسية إقليمية كافية تساعد على حلها من داخل المنطقة، وفي الوقت نفسه فإن العمل على تجاوز هذه الأزمات من داخل المنطقة ضئيل جدا، وأقل بكثير من التحديات التي تفرضها الأزمة سواء في وضعها الحالي في بعض الدول العربية أو في آفاقها المستقبلية في كل الدول العربية تقريبا. إن القصور في التعامل مع أمن الطاقة في العالم العربي، يعكس حالة من انعدام الوعي بخطورة غياب أمن الطاقة الذي يمثل تهديدا وجوديا للدول العربية، لا يقل عن تهديد غياب الأمن المائي والغذائي. كذلك فإن استجداء حلول للطاقة من خارج المنطقة يعكس فشلا ذريعا في إدراك أهمية الحلول المشتركة للمشاكل المشتركة، كما أنه يعكس أيضا تغليب نزعة تفكيك وتفتيت المنطقة جيوستراتيجيا، وتحويلها إلى دويلات لا هوية لها، ما يسهل لإسرائيل التلاعب بها. ولا يأتي ذكر إسرائيل هنا من باب الإقحام غير الموضوعي، بل انه يأتي في قلب الموضوع، لأن إسرائيل لم تتحول فقط من مستورد إلى منتج للطاقة، بل إنها أصبحت لاعبا إقليميا خطيرا له نفوذ من خلال احتكار تصدير الغاز إلى كل من مصر والأردن، وربما نراها قريبا تلعب الدور نفسه في سوريا ولبنان، مثلما يحدث الآن من ترتيبات استيراد سوريا للغاز من أذربيجان، وهي الترتيبات التي تقودها إسرائيل والولايات المتحدة من المقاعد الخلفية. ومن مظاهر العجز العربي أن يستورد العراق الغاز من تركمانستان، بينما الغاز القطري إلى جواره. كما أنه من مظاهر العبث والسخرية المبكية أن يستورد المغرب الغاز الجزائري من إسبانيا وفرنسا بسبب الخلافات السياسية بين البلدين العربيين، وهي خلافات يسهل حلها إذا التزمت كل من الدولتين بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية، وهو المبدأ «الوستفالي» العريق الذي تسير عليه العلاقات بين الدول المتحضرة منذ القرن التاسع عشر.
العراق والغاز التركمانستاني
لسنوات طويلة اعتمد العراق على استيراد الغاز من إيران لتشغيل محطات توليد الكهرباء. وعلى الرغم من المشاكل التجارية التي ترافقت مع هذا الاعتماد، فإن العراق ظل بطيئا في البحث عن طريق لتنويع مصادر الطاقة اللازمة، وذلك على الرغم من ثروته النفطية. كذلك فإن حكومات العراق المتعاقبة منذ سقوط صدام حسين، لم تدرك خطورة الأبعاد البيئية والاقتصادية والأمنية للتبعية في الطاقة، وانكشاف الأمن القومي في هذا المجال.
ومع تفاقم المشاكل التجارية الناتجة عن تراكم ديون العراق المستحقة لإيران لسداد قيمة استيراد الغاز، جاءت أيضا الضغوط الأمريكية على العراق لوقف استيراد الغاز من إيران. المدهش بعد ذلك أن العراق لم يلجأ إلى أي دولة خليجية مجاورة لاستيراد الغاز. ويرى البعض في تبرير ذلك أن العراق لا يرتبط بخطوط أنابيب تسمح له باستيراد الغاز من قطر على سبيل المثال. هذا تبرير غير مقبول، لأن مد خط أنابيب لتصدير الغاز الطبيعي من قطر إلى العراق لا يكلف الكثير ماليا إذا اتفقت الدولتان، كما أنه سهل من الناحية التقنية. وهو أيضا تبرير غير مقبول إذا علمنا أن العراق بصدد إنشاء محطة بحرية لاستقبال الغاز المسال من أي مكان في العالم، وأقرب الأماكن في ذلك هي قطر.
وقد أعلنت بغداد في منتصف الشهر الماضي أنها تتفاوض مع شركات عالمية بشأن مشروع بناء منصة عائمة لاستيراد الغاز المسال لتشغيل المحطات الكهربائية في البلاد. وذكرت وزارة النفط، أنه تم توجيه الدعوات لست شركات لتقديم عروضها الفنية، وأن الحكومة بصدد اتخاذ قرار نهائي في هذا الشأن. كما يتجه العراق حاليا نحو تركمانستان للحصول على الغاز بكمية تصل إلى 20 مليون متر مكعب يومياً، إلا أن المفاوضات ما زالت متعثرة بسبب عوائق مالية وفنية تتعلق بآلية نقل الغاز. وإلى جانب ذلك يسعى العراق إلى تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغاز بعد استكمال مشاريع عملاقة تنفذها حالياً شركات عالمية، أبرزها «توتال أنرجي» الفرنسية في جنوبي البلاد، حيث من المتوقع أن ينتهي العمل بها في غضون عام 2028، وبالتالي يمكن تشغيل جميع المحطات الكهربائية بدون الحاجة إلى استيراد كميات كبيرة من الغاز من الخارج. ويبلغ معدل إنتاج الطاقة الكهربائية في العراق حالياً نحو 28 ألف ميغاواط، مقابل احتياجات استهلاكية تبلغ حوالي 50 ألف ميغاواط. أي أن الإنتاج الفعلي للكهرباء لا يغطي إلا 56 في المئة من احتياجات الإنتاج، بشرط توفر الوقود اللازم للتشغيل.
إنارة سورية بالغاز الأذربيجاني
تمثل صفقة تصدير الغاز الأذربيجاني إلى سوريا التي بدأ تنفيذها أوائل الشهر الماضي عبر تركيا إلى حلب بوابة خلفية لانضمام أذربيجان إلى ما يسمى اتفاقيات إبراهيم. وطبقا لمصادر تركية وأمريكية وإسرائيلية فإن مرور الغاز إلى سوريا من المرجح أن يتبعه مد خط الأنابيب إلى حيفا، مقابل أن تحصل سوريا على رسوم عبور من أراضيها في صورة حصة مضاعفة من الغاز. ومن شأن وصول غاز أذربيجان مضاعفة قدرة إسرائيل على التصدير إلى كل من الأردن ومصر، ومنافسة الأخيرة في سعيها للتحول إلى مركز إقليمي لتصدير الطاقة. كذلك فإن وصول الغاز من آسيا الوسطى ومنطقة بحر قزوين إلى الشرق الأوسط عبر إسرائيل، من شأنه أن يمنح الأخيرة كلمة مسموعة في سياسات الطاقة الإقليمية. ومن نافلة القول هنا أن نذكر أن دولا عربية تولت توفير التمويل الكافي لاستيراد الغاز من أذربيجان إلى سورية. وترتبط إسرائيل بعلاقات وثيقة مع أذربيجان حيث أنها تستورد منها أكثر من 40 في المئة من احتياجاتها النفطية، وتقوم بتزويدها بنحو 80 في المئة من إمدادات الأسلحة.
مصر: من التصدير
إلى استيراد الغاز الإسرائيلي
تحولت مصر في السنوات الأخيرة من دولة مصدرة للغاز، تتطلع إلى أن تكون مركزا إقليميا للطاقة في الشرق الأوسط إلى دولة مستوردة تعتمد على إسرائيل. وقد أساءت الإدارة الاقتصادية المصرية استخدام موارد الغاز المتاحة، بالإفراط في استنزاف الحقول المنتجة وعلى رأسها حقل ظهر الذي يعتبر درة التاج لثروة مصر من النفط والغاز. كما تسرعت كثيرا في التعاقد على التزامات تصديرية لم تستطع الوفاء بها بعد أن هبط إنتاج الحقول، ما عرّضَها لمشاكل قانونية وتعويضات دولية خصوصا لشركات إسرائيلية. ومع ذلك فإن مصر لا تزال تتمتع بالمزايا التنافسية للموقع، والمزايا الإنتاجية لوجود محطات إسالة الغاز الطبيعي للتصدير في كل من إدكو ودمياط، وقربها من حقول مهمة لإنتاج الغاز في شرق البحر المتوسط، في المناطق الاقتصادية البحرية الخالصة التي تتبع دولا لا تمتلك طاقات متاحة لإسالة الغاز مثل إسرائيل وقبرص. وطبقا لمعادلة تجارية بحتة فإن الغاز الإسرائيلي الذي يصل إليها عبر الأنابيب يعتبر بديلا أرخص للغاز الطبيعي المسال «LNG» الأكثر تكلفة. وبالنسبة لشركات الغاز الإسرائيلية، وخاصةً تلك التي تسيطر على حقل ليفياثان، تُعدّ الواردات المصرية من الغاز فرصةً تجاريةً ثمينة، إذ إن مصر تدفع لاستيراد الغاز الإسرائيلي أسعارا أعلى بكثيرٍ مقارنةً بسعر الغاز المُباع في السوق المحلية الإسرائيلية. وتتولى شركة شيفرون الأمريكية العملاقة.
وقد جددت مصر اتفاقية استيراد الغاز من إسرائيل في الشهر الماضي. وبمقتضى التجديد تضاعفت قيمة الصفقة لتصل إلى 35 مليار دولار، وتقرر تمديد أجلها حتى عام 2040. تُعتبر مصر مستهلكًا كبيرًا للغاز، إذ أنها في العام الماضي استهلكت 60 مليار متر مكعب، بينما بلغ إنتاجها 47.5 مليار متر مكعب فقط، بما في ذلك نصيب الشركاء الأجانب، بنسبة عجز تتجاوز 22 في المئة. وحسب البيان الرسمي الصادر عن شركة نيو ميد إنرجي الشريك الأكبر في حقل ليفياثان، فإن التعديل الموقع مع شركة «أوشن إنرجي» المصرية، وهي شركة تابعة لشركة دولفينوس المصرية صاحبة عقد استيراد الغاز، يتضمن إضافة نحو 4.6 تريليون قدم مكعب (ما يعادل 130 مليار متر مكعب) من الغاز الطبيعي إلى الاتفاق الأصلي، موزعة على مرحلتين، الأولى تشمل تصدير نحو 706 مليارات قدم مكعب (20 مليار متر مكعب) فور دخول التعديل حيز التنفيذ. أما الثانية فإنها تنص على تصدير ما يصل إلى 3.9 تريليون قدم مكعب (110 مليارات متر مكعب). هذا يؤدي عمليا إلى زيادة كمية الصادرات الإسرائيلية إلى 1.2 مليار قدم مكعب يومياً بدءاً من العام المقبل، ثم إلى ما يتراوح بين 1.5 و1.6 مليار قدم مكعب يومياً بنهاية عام 2026 وحتى مطلع 2027.
المغرب واستيراد الغاز الجزائري
من إسبانيا
تحتل المملكة المغربية المركز الأول بين مستوردي الغاز الطبيعي من إسبانيا، وفقاً لبيانات «المؤسسة الإسبانية لاحتياطيات المنتجات البترولية الاستراتيجية» فقد بلغت واردات المملكة المغربية ما يعادل 858 غيغا واط/ساعة، وهو ما يمثل 35.5 في المئة من إجمالي صادرات الغاز الإسباني، متقدمة بفارق كبير على فرنسا التي جاءت في المركز الثاني، ما يعكس اتجاهاً مستمراً نحو توسيع الشراكة في مجال الطاقة بين البلدين، على الرغم من أن إسبانيا تنتج كمية صغيرة من الغاز الطبيعي، لا تغطي إلا ما يعادل واحد في المئة فقط من استهلاكها. وتلجأ إسبانيا إلى تغطية احتياجاتها من الجزائر التي تسهم بالنصيب الأكبر في تغطية الطلب المحلي الإسباني بنسبة 43.6 في المئة، تليها الولايات المتحدة في المركز الثاني.
وعلى الرغم من الاعتماد الكبير على استيراد الغاز عن طريق إسبانيا، فإن المملكة المغربية تتبع استراتيجية جادة لزيادة نسبة الاعتماد على النفس في مجال الطاقة عن طريقين، الأول هو تنويع مصادر الطاقة بالتوسع في إنتاج الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية، ورفع نسبة الطاقات المتجددة إلى 52 في المئة من المزيج الكهربائي بحلول عام 2030. والطريق الثاني هو تنويع مصادر الحصول على الطاقة التقليدية باللجوء إلى مصادر إمدادات جديدة في أفريقيا وعبر البحر المتوسط. ومن أبرز مشاريع المغرب في هذا السياق، الإعداد لتشغيل وحدة عائمة لإعادة تحويل الغاز المسال إلى حالته الطبيعية «FSRU» في ميناء «الناظور ويست ميد»، ما سيمكن من تعزيز مرونة واستقلالية منظومة الطاقة الوطنية، باستيراد الغاز المسال مباشرة من موردين آخرين، مع الحفاظ على شراكة استراتيجية متنامية مع إسبانيا.
دولفين للطاقة: نموذج خليجي استثنائي
طبقا للموقع الإلكتروني لشركة دولفين للطاقة، وهي واحد من أعظم مشروعات الطاقة الإقليمية في المنطقة العربية، فإن الشركة تصف نفسها بأنها «شركة رائدة في مجال الغاز الطبيعي، تلتزم بتوفير إمدادات الطاقة النظيفة يومياً من دولة قطر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان». ويعتبر مشروع غاز دولفين التابع لشركة دولفين للطاقة المحدودة مبادرة فريدة في قطاع الطاقة تضْمن توريد إمدادات منتظمة من الغاز الطبيعي من دولة قطر إلى عملائها في دولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عُمان لمدة 25 عاماً. ومع أن المشاورات بشأن المشروع بدأت في عام 1999 تقريبا، فإن خط الغاز الممتد من حقل غاز الشمال القطري إلى الإمارات، ثم بعد ذلك إلى سلطنة عمان لم يبدأ العمل إلا في عام 2007 بعد أن اكتمل إنشاء مصنع راس لفان لمعالجة الغاز، ومد خط الأنابيب. ويتم من خلال الخط، الذي يبلغ طوله 364 كيلومترا، توريد ملياري قدم من الغاز الطبيعي يوميا إلى كل من الإمارات وعُمان، علما بأن طاقته التصميمية تزيد على ثلاثة مليارات قدم مكعب يوميا. وتحصل الإمارات عن طريقه على ما يقرب من 30 في المئة من احتياجاتها اليومية من الغاز اللازم لتشغيل محطات الكهرباء، وتحلية المياه، والصناعة والتجارة والإنارة والاحتياجات المنزلية. أما عُمان فإنها تستورد يوميًا حوالي 5.5 مليون متر مكعب من الغاز عبر خط دولفين، وهو ما يُشكل حوالي 12 في المئة من إجمالي إمداداتها من الغاز. ومع أن السلطنة دولة منتجة ومصدرة للغاز، إلا أنها تستخدم الواردات عن طريق دولفين للطاقة في توسيع إنتاجها لأغراض الاستهلاك المحلي والتصدير. وتنتج عُمان أكثر من 50 مليار متر مكعب من الغاز سنويا، ولديها منشآت لإسالة الغاز (LNG) في كل من «قلهات» و «صور» للتصدير لآسيا وأوروبا.
ولا يقتصر نشاط شركة دولفين للطاقة على نقل الغاز، بل إنها تعمل في مجالات مختلفة تغطي مراحل الصناعة من التنقيب عن الغاز إلى تصنيع المنتجات النهائية المستخلصة منه في مصنع ضخم في مدينة راس لفان الصناعية القطرية. وتشمل المنتجات التي يتم استخلاصها المكثفات البترولية منخفضة الكبريت، والغاز البترولي المسال، والإيثان والكبريت. وتشمل قائمة عملاء دولفين للطاقة الذين يرتبطون معها بعقود طويلة الأجل شركة أبو ظبي للماء والكهرباء، وهيئة دبي للتجهيزات، وشركة نفط عمان، وهيئة كهرباء ومياه الشارقة، وهيئة غاز رأس الخيمة، والهيئة الاتحادية للكهرباء والماء في الإمارات. وتشترك في ملكية دولفين للطاقة شركة مبادلة الإماراتية (51 في المئة)، وتوتال الفرنسية (24.5 في المئة) وأوكسيدنتال الأمريكية (24.5 في المئة). واستطاعت دولفين للطاقة أن تصمد في وجه عواصف الخلافات السياسية التي أدت إلى فرض مقاطعة اقتصادية على قطر من جانب كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر، بين عامي 2017 و2021. وقالت وكالة بلومبرغ في ذلك الوقت إن الإمارات تعتمد على الغاز الطبيعي المستورد من الخارج لتوليد نصف إجمالي الكهرباء في البلاد، ولذلك فقد أحجمت عن إغلاق خط أنابيب «دولفين» الذي يغذيها بالغاز القطري. واستمر تدفق الغاز القطري خلال الأزمة التي استمرت حوالي ثلاثة أعوام ونصف العام، عبر خط أنابيب دولفين بالشكل المعتاد إلى الإمارات وسلطنة عمان. وتعتبر هذه سابقة في تاريخ التعاون الاقتصادي العربي، الذي تتضاءل أهميته خلال الخلافات السياسية ويصبح الضحية الأولى لها.
وهناك نماذج أخرى كثيرة تبرهن على غياب أمن الطاقة في المنطقة العربية بشكل عام، وعدم وجود بنية أساسية إقليمية تساعد على تحقيقه. ومن الصعب الحديث عن تحقيق الأمن القومي العربي من دون تحقيق أمن الطاقة والمياه والغذاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى