رؤي ومقالات

محمد يونس يكتب:هذه التخاريف عن عرابي

هل من المعقول (كما هو موثق في الرسومات ) ان يقتحم (ضابط صغير من تحت السلاح ) القصر مصحوبا بالجنود و الناس ..و يتحدث (من فوق حصانه )بتعالي مع الخديوى توفيق و المندوبين الساميين الفرنسي و الانجليزي ..الذين يقفون منصتين له وهو يقول (( لقد خلقنا الله أحرارًا، ولم يخلقنا تراثًا أو عقارًا؛ فوالله الذي لا إله إلا هو، لا نُورَّث، ولا نُستعبَد بعد اليوم.))
هذه التخاريف عن عرابي التي يزودوننا بها منذ الصغر علي أساس أنها تاريخ . لا يصدقها إلا شخص حالم فاقد التقدير .
إذا سألت أحدهم ماذا أكلت أمس ؟.. فسيسرد عليك الأنواع التى تناولها.. ثم يراجع نفسة و ينفي بعضها و يضيف أصناف أخرى .. و قد يعود ليقول أن هذا الذى أضافه تناوله أمس الاول .. أو أنه لا يتذكر جيدا إلا كذا و كذا و كذا .
أما إذا كان السؤال عن ما قدمه مضيفة في وليمة .. فسيكون الامر أكثر صعوبة ..و الخطأ من حيث الإضافة أو النقص أكبر .
فإذا ما كان عن محتويات بوفية مفتوح أقيم من أجل عشاء عدد من الرواد في قندق معين منذ شهر فبالتأكيد ستحصل علي إجابات متفاوته .
إنها الذاكرة البشرية .. تهمل بعض من أجزاء الصورة .. و تبدى ملامح أخرى .. وفقا لأسباب عدة .. منها الخوف أو الرغبة أو التركيز أو محو تجربة سيئة .. أو إظهار إنتصار مبالغ فيه .. أو التملص من المسئولية ..عشرات العوامل و الاعتبارات تتداخل عندما يروى أحدهم أحداث شاهدها بنفسه.
و قد يدهشك .. ما إنتهي إليه حديث أدليت به شخصيا لاحدهم ثم تناقلته الالسن مضيفة أو منقصة فتجد أن ما قلته قد أصبح بعد تداوله شيئا مختلفا أو تحول إلي أسطوره بطولية أو أصبح سبا علنيا .. أو جالبا للكوارث المحققة .
إنه نفس ما حدث لاصول ما نرويه من أحداث الماضي أو التاريخ …يتم تناقلة .. و تعديله و تغيير معانيه بل تشويهه في بعض الاحيان خصوصا لو كان التداول شفهيا أو لو كان منقوشا علي الجدران و الحجارة بلغة غير مقرؤة أومدون في كتب و صحف مضي عليها زمن و لم يعد محددا من الذى كتب و من الذى نقل و من الذى عدل .
المجتمعات أيضا تعمل بنفس الطريقة التي يعمل بها العقل البشرى .. تخفي المواجع و السقطات و الهزائم و تظهر الانتصارات و النجاحات و التغيرات التي تتصورها ايجابية ترددها مرات و مرات حتي يقر في ذهن البعض أنها حقائق لا جدال فيها ، .. حتي تجيء اللحظه الفارقةعندما يكتشف فيها أخرون أن ضلالات العقل الجمعي (عمدا أو دون وعي ) أخفت تدمير فرقة دبابات مصرية في سيناء و أحلت محلها نجاح عبور خط بارليف
أشهر هذه الاساطير التي حولت الهزيمة نصرا كتبت علي جدران معابد الاقصر
فإذا ما ذهبنا لأى من المعابد التي خلد فيها الكهنة معركة قادش (الرامسيوم والكرنك والاقصر وابوسمبل) .. و وقفنا أمام جداريات إنتصار الملك رمسيس الثاني .. فسنردد ما أراد الكهنة لنا أن نتداوله .. بأنه هزم جيش للحيثين منفردا ..ثم نقص الاساطيرالمكتوبة عن الخوف الذى شعر به الأعداء عند ظهوره بينهم علي عربته الحربية .
المؤرخون أيضا قدموا هذا العبث علي أساس أنه حقائق .. قد يعدل فيها البعض بحيث يمكن للعقلية المتسامحه مع المنطق أن تقبله ..و لكن يظل معرضا لان يصل أغلب المتداولين له لكشف مدى زيف الرواية .
و مع ذلك ومع إنتفاء المنطق في كون رمسيس الثاني منفردا يفك الحصار عن جيشة إلا أن هذا لا يمنعنا من أن نظل نتحدث عن إنتصارات الملك .. بنفس الحماس الذى يتولد عندما نروى فتوحات تحتمس الثالث الذى بسبب ما قدمه من منح و عطايا و تميز لكهنة أمن ..زاولوا إسلوبا تعارف عليه القدماء بمحو كل ما يتصل بأخبارمن سبقه من الحكام و نسبوا نجاحاتهم إليه بما في ذلك حملات عمته حتشبسوت لبلاد البنط ومحو إسمها من علي جدران المعابد رغم أنها شاركته الحكم صبيا حتي نضج ..
الفقد و التلفيق و التزوير سمة تصبغ التاريخ ..ومصر خصوصا بعدما إنتهت علاقة سكان هذا المكان بلغة العصافير و بعد أن دمروا برديات و كتابات دونها القدماء علي جدران المقابر وأسطح التوابيت..
ما وصل إلينا من أخبار خلال فترة الجهالة أى ما بين فقد اللغة المصرية القديمة و إكتشاف معني لرموزها (حوالي تسعة عشر قرنا ).. قد يشتط راوية أو ناقله بحيث يصل بحديثه في بعض الاحيان الي مستوى الخرافة .. مثل قدرات ملوك مخترع أسماء لهم أو ملكات مثل (دلوكة) علي السحر و التغلب علي الاعداء بفضل طلسمات الكهان و كتاباتهم علي جدران البرابي .
التاريخ المصرى الطويل و الممتد لالاف السنين يتعرف علية أبناء الجيل الحالي عن طريقين .
أحدهما كتب التراث ..والقص الديني الذى يحكي عن لمحات من عصور غير محددة الزمن و أماكن غير معروفة و أحداث غير مرويه في مصادر أخرى.
و الطريق الاخر هو مجهودات علماء الاثار .. و المصريولوجي .. الذين بذلوا جهودا مشكوره في فك طلاسم اللغة باشكالها المختلفة ثم الحركة بين النصوص التي وصلت إليهم بالصدفة و شكلوا منها أطر قصة الحضارة
كل من المصدرين.. لا يصلح لان يكون أساسا منطقيا لإعادة تشكيل الماضي و تمثله كما حدث .
السير ولاس بدج كتب عام 1903 في مقدمة كتابه الهة المصريين
((منذ زمن بعيد توقف علماء المصريات عن عادة الاعتماد المطلق علي المعلومات التي كتبها الرحالة الاغريق إنهم جميعا عجزوا عن إستخلاص الحقائق الكاملة)).
التاريخ المصرى بعد أن عرف البشر التدوين بلغة لازالت متداولة .. (اليوناني القديم أو اللاتيني أو العربي أو التركي أو الانجليزى) تاريخ غير مدقق أيضا .. فما وصل إلينا هو روايات المنتصرين أما الشعب الذى إفتقد إلي وسيلة تعبير مكتوبه يشكو فيها ظلم الحكام و الجباه و الكهنه و العسكر .. فلم يكن له صوت إلا في ما توارثته الاجيال من عادات و تقاليد أو الامثال والحواديت والمووايل والاغاني الشعبية او التراتيل الكنسية .. أو ما يمكن أن يطلق عليه الخصوصية الملتصقة بالمصريين .
التاريخ المصرى المكتوب باليونانية أو اللاتينية .. يركز علي ما تم منذ زمن البطالسة حتي سقوط الاحتلال الروماني ..عندما كانت مصر جزء من قصص صعود و سقوط الامبراطوريات الاغريقية و الرومانية و البيزنطية .. و هو تاريخ يبعد كثيرا عن الدقة و الحيادية حيال دور مصريو ذلك الزمن المهمل إلا في كونه وسيلة إنتاج تزود أوروبا برغيفها و نبيذها و زيوتها .
لم تذكر تلك المراجع كيف إنهارت اللغة المصرية و توارت .. و لم تذكر كيف إستسلم (أمون )وإختفي .. و لم تذكر مدى الفقر و الجهل السائد بين العامة و الرعب من إنحسار مياة النيل أو فيضانها الزائد أو كيف قاوم المصرى إنتشار الاوبئة و الامراض .. أوكيف ثار علي تحكم الغرباء و المستعمرون.
تاريخ مصر في تلك الازمان كان يدور حول مدرسة الاسكندرية الفلسفية .. وكيف تعلم الاغريق من نبع الثقافة و الحضارة المصرية.. و كلها قصص لا تتحدث عن مصر بقدر حديثها عن حكامها من الاغريق .. أو الرومان .
الدين المسيحي الذى إنتشر بين المصريين كما لو كان بمعجزة .. قصة مسكوت عنها .. فالبعض يتصور أن العقيدة المسيحية عندما بدأت رحلتها علي أرضنا جاءت بنفس الصيغة التي أصبح عليها الخطاب الاورثوزكسي اليوم …
و منهم من يرددون ما جاء علي لسان البطارقة الاوائل علي أساس أنه المقال الوحيد ..
في نفس الوقت موجود العديد من الوثائق و الكتب التي تحكي قصص مختلفة .. غير معروفة لأغلب سكان هذا المكان .. لقد كانت هناك في البداية عشرات الملل و التوجهات يتوزع عليها المصريون .. و كل منها ترى أن حديثها هو الحق و الباقي باطل .. وإستمر هذا الوضع قبل تحول الامبراطور البيزنطية للدين الجديد
بعد هذا التحول زاد الشقاق و النزاع بين الطوائف المختلفة تصلنا لمحات عنه من شذرات جاءت خارج سياق خطاب الكنيسة الرسمية .
تاريخ إنتشار الدين المسيحي بين المصريين يحتاج لدراسة موثقة .. بعيدا عن ما هو سائد من خطابات رسمية عبر الزمن خصوصا بعد الغزو العربي لمصر
فتحويل كفاح الشعب المصرى .. ضد الجباة و المستعمرين و جعله صراعا دينيا .. علي مستوى ( الاسكندرية ضد روما) .. أو (القبط ضد المسلمين) هو هيلوله فكرية و نوع من التبسيط المخل .. وإهدار لكفاح المصرى عبر الزمن للتخلص من نير غاصبيه .
الاكثر غموضا رغم أنه الاقرب زمنيا .. هو تاريخ إنتشار الاسلام في مصر ..وما صاحبه من قصص تتردد عن ترحيب المصريين بالغزاة للتخلص من المستعمرين البيزنطيين و إغفال ما تم من صراعات و إنتفاضات و مقاومة للجباة الجشعين الذين أتوا لفرض ضرائب متجاوزة حتي ثورة البشموريين ضد الإفشين
تاريخ حكم العرب في مصر بصوره الثلاثة ( الخلفاء الراشدين ، الامويون ، العباسيون ) هو تاريخ إستنزاف ثروات المصريين و التعامل معهم علي أساس أنهم موالي أو ذميين ليست لهم حقوق أبناء الجزيرة العربية المهاجرين في إحتلال إستيطاني مستمر قبل و بعد إحتلالهم للاسكندرية و الفتك بسكانها وحضارتها.
موقف الولاة المختلفين و الخلفاء المتتالين من مصر و المصريين .. يتراوح بين الذكرى الحسنة للخليفة عمر بن الخطاب الذى قال ( إضرب إبن الاكرمين ) و هي قصة قد تكون حقيقية و لكنها ليست بين إبن القائد عمرو بن العاص و مصرى من الموالي أو الذميين .. و لكن بين إبن الاكرمين و إبن أحد العربان المهاجرين أو المحتلين و الذين كانوا يطلقون عليهم أهل مصر .
و بين ذكرى ظلم القائد المنتصر عندما جمع من القبط أموالهم و قال من سيخفي علي كنز ساقطع رقبته .. و نفذ هذا في (بطرس ) أحدهم .
إنها في النهاية كلها قصص و ليست تاريخا موثقا يحدد حجم النهب الذى زاولة الولاة علي الشعب المصرى .. بحيث تحكي الحواديت عن حفيدة إبن طولون (قطر الندى ) بنت خماروية و جهازها الذى كانت قافلته أولها بمصر و أخرها ببغداد .
المتتبع للاموال التي كنزها الولاة أو أرسلت للخلفاء سيعرف بوضوح أن جنود عمرو بن العاص لم يأتوا لنشر الاسلام فقد كان القرآن لم يكتب بعد .. و كان المصريون يجهلون لغته ..و لا يفهمون ما يقوله العرب إلا عن طريق المترجمين فلم يبدأ الغزاة بتعليمهم إياه و تغيير دينهم بقدر ما بدأوا بتأمين الحصول علي أموالهم .
تاريخ إنتشار الدين الاسلامي في مصر بشقية ..أى إستنزاف عرق الشعب لصالح الخلفاء في المدينة أو دمشق أو بغداد .. و الشق الاخر العقائدى و الفكرى .. يحتاج لدراسة مستفيضة .. بعيدا عن كتب فقهاء المماليك ..و حواديت المؤرخين الذين دونوا فيها وجهات نظر و إنطباعات لا ترقي لمستوى التأريخ عن جزء من الصورة و ليس مجملها .
علي الجانب الاخر و بعيدا عن كتب التراث يوجد تصور لعملية الغزو العربي لمصر بانها أمر طبيعي ..يقرنها أصحابها بسلسلة طويلة من غزوات البدو المحيطين بدأها عبدة حورس قبل عصر الاسرات أو الهكسوس في الدولة المتوسطة أو الاغريق في نهاية الدولة الحديثة ..
فالسيناريو الذى تكرر مع البدو يفتتح بتسللات وهجرات هربا من سوء الاحوال الاقتصادية في بلدان مجاورة لتكون مجتمعات من الهكسوس في دلتا مصر الشرقية أو الاغريق علي شواطيء المتوسط او بدو الجزيرة في صعيد مصر و كانت هذه التجمعات عونا للغزاة و تمثل وسطا مناسبا لإستقبال الجنود .
الغزو سواء كان هجرات و إستيطان .. ثم تبعها جيوش و جنود .. أو كان جنود و إنتصارات تبعها هجرات إستيطانية .. يحتاج لدراسة مدققه يتغافل عنها من يعتبرون غزو العرب لمصر نعمة فقد هدانا الغزاة للإسلام رغم فظائعهم المبررة لديهم بأنها كانت سمة العصر .
تاريخ مصر منذ 600 ميلادى حتي اليوم كتبه بشكل مستمر المنتصرون .. ولم يشارك الشعب المقهور دوما إلا في إنتاج القوت للجبارين من الجباة و العسكرتارية المحتلة.
المنتصرون يقصون علينا صراعات الخلفاء علي حيازة ثروات مصر ..و عن إستقلال البعض بها مثل أحمد بن طولون و الإخشيد ..أو الفاطميون والايوبيون ..و عن أنه قد حكمها في زمن ما خصي .. أو عبيد يباعوا و يشتروا في الاسواق .. و أطفال .. و مجانين .. و شواذ .. وغريبي الاطوار .
.
و كانت في يوم سنية المذهب و في أخر شيعية .. ثم عادت مع صلاح الدين لتصبح شافعية .. و في كل الاحوال كان يتبدى في صدر الصورة حامل السلاح بجواره مفتي من الموالي يبرر ظلمه بواسطة فتاوى متعارضة
قراءة التاريخ قبل وبعد مقتل طومان باى و تعليق جثته علي بوابات القاهرة يتخذ طريقين ..
أحدهما يعتبر المماليك مصريون قاموا بعمل إنشاءات و بنوا الجوامع و الوكالات و الاربع و المواني .. وشقوا الطرق و أمنوا التجارة بين الشرق و الغرب .. و حاربوا و إنتصروا علي المغول والفرنجة .. و أن كل هذه الانجازات هي إنجازات مصرية ..
و البعض يرى أن حكام مصر من 600 حتي 1800كانوا مستعمرين و أوليجاركية من الظلمة ..قاموا بنزح ثروات مصر تحت تهديد السلاح .. و لم يقدموا أى إنجاز حضارى خصوصا في زمن الاحتلال العثماني ..و لم يهتموا بترقية و تعليم المصريين .. و تركوهم يعانون المجاعات (مثل الشدة المستنصرية ) و يأكلون بعضهم بعضا .. و يقمعون ثوراتهم التي لم تتوقف . .
تاريخ هذه الفترة يحتاج لبحث و دراسة و تدقيق .. يتخذ آليات حديثة لتوثيق المعلومة .. و يدرس التطورات التي حدثت علي المصريين و جعلتهم بالشكل الذى كانوا عليه ووصفة في مدخل القرن التاسع عشر علماء الحملة الفرنسية المصاحبين لنابليون أثناء إستعمارة لبلدنا
عبر الزمن عاش المصرى مندهشا ..يتامل الغاصبين و هم يحولون النهب و السرقة و الإهمال و التعذيب إلي مزايا و إنجازات ..
تيمة تتكررمنذ بداية التاريخ المروى و المكتوب .. حتي اليوم الذى يبكي فيه المصريون و هم يشاهدون صور الأثار المصرية بالغة الجمال في قرافات السيدة نفيسة و الامام الشافعى و سيدى جلال و هي تزال
أو أحياء قديمة بكاملها و حدائق لها تاريخ و هي تدمر ..من أجل أسباب غبية مجهولة ..لا يعلمها إلا الملأ الأعلي الذين يدعون بنفس البجاحة .. و ثقل ألظل إنهم يطورونها .. فتردد وسائل الإعلام هذا الخطل
..
المشكلة إن الذاكرة البشرية .. تهمل بعض من أجزاء الصورة .. و تبدى ملامح أخرى .. وفقا لأسباب عدة ..كما ذكرت في مطلع المفال
لذلك سيبقي في الأذهان .. و العقول المستباحة .. . كلمات سخيفة مضللة يرددها الناس أنه في ذلك العصر جرى تطوير المدن الرئيسية .. و تجميلها كما يحكون أن عرابي من فوق حصانه أرهب الخديوى ..و سبب للقناصل الرعب .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى