رشاد حامد يكتب :البيتكوين وتشغيل سد النهضة

في خطوة تحمل دلالات استراتيجية، وقّعت إثيوبيا عقودًا طويلة الأجل لتوريد الكهرباء إلى مراكز تعدين العملات الرقمية، وعلى رأسها البيتكوين. ورغم الجدل العالمي حول هذا النشاط بسبب استهلاكه الهائل للطاقة، فإن ما يهمنا في السياق الإقليمي هو أن هذه العقود تُلزم إثيوبيا بتشغيل توربينات سد النهضة بوتيرة مستقرة ومنتظمة لضمان الحد الأدنى من إنتاج الكهرباء المتفق عليه.
ما هو تعدين البيتكوين؟
تعدين البيتكوين هو عملية حل لغز رياضي يُعرف باسم “تجزئة الكتلة” (Block Hash)، ويعتمد على أسلوب “القوة الغاشمة” (Brute Force)، ما يجعله من أكثر العمليات استهلاكًا للطاقة الكهربائية.
تكلفة إنتاج بيتكوين واحد تختلف من دولة لأخرى حسب أسعار الكهرباء والضرائب والرسوم. على سبيل المثال:
– في الولايات المتحدة: تصل التكلفة إلى 56000 دولار.
– في أيرلندا: حوالي 85767 دولار.
– أما في إثيوبيا: فقط 8000 – 12000 دولار!
هذا الفارق الهائل يعود إلى أن إثيوبيا تبيع الكهرباء للمعدنين بأسعار منخفضة جدًا جدا جدا، وتفرض ضرائب ورسوم شبه رمزية.
السؤال: لماذا؟
الإجابة: “يا ايها الذين امنوا لا تسألوا عن اشياء ان تبد لكم تسؤكم”
ماذا يعني ذلك لسد النهضة؟
حجم الكهرباء المتعاقد عليها مع شركات التعدين يُمثل حاليا أكثر من ثلث إجمالي الكهرباء التي يمكن لسد النهضة توليدها فعليا بعد تركيب وتشغيل كل التوربينات، ما يجعل تشغيل توربينات سد النهضة بشكل منتظم ضرورة اقتصادية، وليس خيارًا هندسيًا أو سياسيًا.
ولأن تعدين العملات الرقمية يتطلب مصدر كهرباء مستقرًا، فإن إثيوبيا مضطرة لتمرير كامل إيراد النيل الأزرق عبر التوربينات بمعدل ثابت، مما يُحوّل تشغيل السد إلى آلية تمرير منتظم للمياه، ليس بدافع التعاون مع دول المصب، بل حفاظًا على مصالحها الاقتصادية.
هل تستفيد مصر والسودان من ذلك؟
رغم غياب اتفاق قانوني شامل بين إثيوبيا ودول المصب، فإن هذه الالتزامات التعاقدية تُوفر لمصر والسودان استفادة غير مباشرة، إذ تضمن مرور المياه بشكل منتظم نسبيًا في السنوات العادية وحتى الجافة.
ماذا عن سنوات الجفاف؟
في حال انخفاض الإيراد المائي، تواجه إثيوبيا خيارًا صعبًا:
– إما تقليل التوليد الكهربائي للحفاظ على المخزون.
– أو السحب من المخزون للحفاظ على التوليد والوفاء بالتزاماتها.
غالبًا ما تلجأ إثيوبيا إلى حل وسط: تمرير مياه تفوق الإيراد الطبيعي ولكن تقل عن الكمية المثلى، مما يخفف أثر الجفاف على دول المصب، لكنه يُضعف مخزون السد.
وبعد انتهاء الجفاف، تعيد إثيوبيا ملء الخزان لتعويض ما فقد، ما يؤدي إلى انخفاض الإيراد المائي المتجه نحو مصر والسودان، وكأن الجفاف “تأجل” بالنسبة لهما.
كيف تستعد مصر لهذا السيناريو؟
مصر، التي لم تتأثر بالجفاف أثناء حدوثه، تعرف أنها ستواجهه لاحقًا، لذا يمكنها الاستعداد عبر:
– تشغيل السد العالي ببروتوكول الجفاف للحفاظ على مخزون بحيرة ناصر.
– تعديل التركيب المحصولي لتقليل المحاصيل الشرهة للمياه.
– استيراد المياه الافتراضية عبر شراء سلع زراعية كثيفة الاستخدام للمياه.
جوهر الأزمة: غياب الشفافية
رغم أن الواقع الاقتصادي يُجبر إثيوبيا على تمرير المياه بانتظام، إلا أن غياب الشفافية والتنسيق مع دول المصب يبقى التهديد الأكبر:
– لا تُعلن إثيوبيا عن جدول التشغيل أو التغيرات المفاجئة.
– لا توجد آلية إقليمية للمراقبة أو التنبؤ.
– السدود السودانية تتأثر خلال أيام قليلة بأي تغيير في تصريف سد النهضة.
– السد العالي في مصر قادر على امتصاص الصدمات قصيرة المدى، لكن الغموض يُضعف التخطيط طويل الأجل.
الخلاصة
إثيوبيا أصبحت عمليًا مرتبطة بتمرير المياه لأسباب اقتصادية بحتة، ما يوفر استقرارًا نسبيًا للتدفقات نحو دول المصب. لكن غياب الشفافية، خاصة في أوقات الجفاف أو إعادة الملء، يبقى التهديد الأبرز، ويستدعي تفاوضًا سياسيًا جادًا، وتعزيز أدوات الرصد والتحليل، ورفع كفاءة إدارة الموارد المائية في مصر والسودان.