حمزه الحسن يكتب : اكتشافات زمن العجائب

أول نظام للضمان الاجتماعي تتباهى به أوروبا اليوم تأسس في مملكة أور قبل 6 الاف سنة،
حيث للأرامل وكبار السن واليتامي والمرضى حصة من الرز والقمح والدهن والسُكر. كان هذا البرنامج على القناة الفرنسية الـــ TV 5،
أي ان نظام البطاقة التموينية تأسس في مملكة أور لكننا في قطيعة معرفية وتاريخية مع الماضي الحي وذاكرة مبتورة نعتقد ان التاريخ بدأ من اليوم.
ما ينشر على صفحات التواصل بحسن نية يثير العجب من منظور مختلف ومن زاوية أخرى. يلوح الأمر غرائبياً لكن هذه الأحداث العفوية تعكس ما وصلنا اليه.
صاحبة صفحة تكتب بكل سرور كما لو انها اكتشفت كوكباً أو اخترعت اللبن،
تقول انها دخلت مطعماً ووجدته نظيفاً،
وتهتف فرحة كما فعل باسكال عندما اكتشف نظرية الاواني المستطرقة،
أو كما صرخ العالم أرخميديس وهو يغتسل ان كمية الماء المزاح تساوي كمية الماء المغمور من جسمه فصرخ:
” وجدتها”.
كما لو ان وجود مطعم نظيف من المعجزات مع ان سيدوري كانت صاحبة حانة نظيفة في بابل قبل الاف السنين . على صفحة أخرى تقع معجزة لا تحدث الا في العراق،
إفتتاح قنطرة بطول مترين على ترعة يابسة في احتفال رسمي وشريط وزهور وحضور وسائل اعلام وزغاريد دون الحاجة للحديث عن ” ساحة الديوانية” التي أصابت شركات الهندسة بالدوار لانها من تصميم مهندس سريالي وحشاش.
يكتب بريء بكل فرح كما لو انه وقع على كنز أسطوري،
كما فعل غاليلو عندما اكتشف قانون الجاذبية من خلال سقوط التفاحة للاسفل وليس للاعلى، ويقول إنه تحدث مع سياسي شريف لأول مرة في حياته، بالطبع لآخر مرة . من غير المعروف اين وقعت هذه المعجزة وكيف عرف حالاً انه شريف وهؤلاء يرتدون أقنعة حسب الظروف والمناسبات؟.
لا يعرف هذا المسكين ان السياسة والشرف أمران متناقضان، لكنه أمام قناع وفي إنتظاره صدمة. السياسة لا يحكمها الشرف لان كل طرف يفسره حسب مصالحه بل يحكمها القانون.
أحياناً تحتفل صفحات التواصل بوزير زار مؤسسة واطلع على العمل فيها،
كما لو ان هذا ليس من واجب المسؤول لكنه قام بفضل ومنة،
وهكذا يخلق الجمهور طواويساً وبيروقراطيين ومتغطرسين على أعمال تافهة.
هناك ظاهرة متنامية ملفتة للنظر هي ظاهرة تسويق كبار الضباط خلال أعمال روتينية وتصويرهم كقادة تاريخيين ونجوم حتى لو قام أحدهم بتفقد مطعم جنود أو أسرة نوم . هل هو تسويق برئ وعفوي؟ أم مسلسل بطيء لخلق شخصيات مستقبلية؟
في مرحلة من المراحل كان المدح لا ينقطع لمدير جهاز المخابرات الهارب اليوم بسبب السرقة القاضي رائد جوحي واذا كان القاضي لصاً، فكيف تكون العدالة؟ اذا فسد الملح، بماذا نملح؟ يبدو ان السمكة خايسة من الذيل ولا حاجة لشم الرأس.
في فترة كان المديح لامين العاصمة وأخرى لشرطي مرور لانه يعمل تحت الشمس،
كما لو ان عمل شرطي المرور في مسبح أو صالة رقص أو موسيقى.
لكن أكبر المعجزات التي احتفلت بها آنسة أو سيدة أو أرملة أو متردية أم نطيحة لأن وجهها لا يظهر،
احتفالية عاصفة هو أنها عثرت على رجل يفهم معنى الحب،
دون أي ظهور أو تعليق للعاشق مما يؤكد أن المدام تحلم وتتوهم،
لأن الحب كالحلم يعاش سراً بلا تهريج ولا إعلان، ولو أنها فعلا حصلت على كل هذا الحب والحنان،
لما وجدت وقتاً للكتابة الاحتفالية به وعاشته بصمت، لأن الحب النظيف النقي كالدم يسري بكل هدوء وجمال ودفء ولانه كالموت يعاش مرة واحدة،
لذلك تحاشى العلماء والفلاسفة وعلماء النفس وصف الموت أو الحب بكلمة” تجربة” لأن التجربة تتكرر والموت والحب لا يتكرران:
الحب موت آخر وولادة. كما ان الحب لا يفسر لانه جنون حكيم حسب نيتشه ولا يخضع للمنطق والعلم.
إنه موت حياة من الرتابة والشحوب وولادة حياة من التطلع والاشواق والأحلام السعيدة البريئة التي لا غرض ولا هدف لها غير الحب.
وليس طابور زبائن يتم ترقية زبون درجة أولى وتخفيض آخر درجة ثانية وثالث شاحن احتياطي للاوقات الحرجة عندما لا يتوفر زبائن،
وقيمة الزبون ما يوفره من وقت وغزل ووقود وهي الشروط التي تحدد اهمية ودرجة الزبون ولا غيرها ، أي انه أداة. تسليع أنبل عاطفة بشرية وتحويل العلاقة الى زبائنية وافراغها من كل جمال ونبل،
أي أن هؤلاء الشواحن محطات تعبئة وقود بعناوين ملفقة لأن الذات الخاوية الفارغة لا تجد في داخلها الطاقة وتختنق لذلك تبحث عن” مكانة” في الخارج عن طريق الاطراء والمدح،
هذا الصنف بلا شاحن خارجي يعيش في استنزاف لا ينقطع ومسرح مستمر وأقنعة مستمرة وتعدد الشخصيات واللغات والمواقف.
وهو ما لا تفعله الحيوانات احادية العلاقة الزوجية كالبجع والنسور وسمك الإنجل فيش أو الملاك والذئاب وطيور القطرس والنمل الابيض وفئران البراري والحمام وغيرها الكثير.
لكن حقاً لو انها عثرت على هذه التحفة الاثرية المنقرضة ان تخبرنا
كيف ومتى وأين عثرت على ديناصور يفهم معنى الحب في هذا الوحل،
وهل يمشي على قدمين ويشبهنا وماذا يأكل وكيف كان مختفياً
أم أنه رقم في طابور طويل من المنتظرين ومن على الرف ؟
وسيأتي يوم يقول أو تقول لك انه او انها خرجت الى العمل او التسوق وعادت سالمةً وتلك معجزة. ماذا سيفعل ملايين من أطفال وفتيان الشوارع اليوم بلا تعليم غير تحويل المستقبل الى قنبلة موقوتة في بلد بلا مراكز أبحاث المستقبل عدا الصراخ والشتائم وهتك الأعراض في محطات التلفزة؟
من يعتقد ان التشهير الاخلاقي وتصفية الحسابات الشخصية بدأ داخل العراق لا يعرف الحقيقة كاملة لان هذا الاسلوب السوقي بدأ في الخارج قبل الاحتلال ونعرف جلاوزته بالاسماء وجميعا بلا استثناء من منتسبي الحزب الشيوعي وهم أول من أسس هذه العاهة في مجتمع عراقي محافظ شديد الحساسية أزاء الوصم الاخلاقي وهتك الاعراض للمختلفين واستغلوا هذه الخاصية بين الغوغاء والملقنين والببغاوات الذين لا يفحصون ولا يشكون ولا يسألون عن دليل.
هناك كثير من الخوارق في هذا الزمن ولعل آخرها إحتفالية برفع نفايات من أمام مؤسسة حضرتها وسائل الاعلام بعد أن تفسخت وتحللت وتعفنت
وصار عبورها أخطر من عبور ساتر ترابي لعدو مسلح، والمعجزة صور هذا الانجاز التاريخي التي توثق الحدث.
ثم الى أين؟
كيف تمت جريمة تخفيض وتقليص حياة العراقي الى هذا المستوى المخجل
وهو في فجر البشرية حدد الكواكب وخلق الارقام واللغة وبنى السدود على الانهار وشرع القوانين
وأسس أول مكتبة وأول مدرسة في التاريخ يحمل الأطفال كتبهم على شكل رقائق طينية يوم كان أباطرة الغرب لا يعرفون القراءة بل يبصمون على أختام، وأول من رسم وحفر على الكهوف
وأول ملحمة هي كلكامش وأول قصيدة في التاريخ “خراب أور”، وظهور العجلة في بلاد الرافدين منعطف في تاريخ العالم.
لا نستغرب لو أتحفنا شخص بمعجزة العثور على حديقة أو مصطبة
أو مصباح عمومي غير مكسور بمصيدة، أو شاهد بعينيه معجزة عراقي يجلس فرحاً وهو يتأمل حركة النمل على الحيطان أو شاهد مسؤولاً يفتتح مبولة عمومية في حفل صاخب.