رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : الإدمان الفكري كإنتحار

عندما صدرت روايتنا” طريق الكراكي” عام 2012، كتبت الروائية أنعام كجه جي مقالة في جريدة الشرق الأوسط تقول: ” متى ينقرض جيلنا لكي ينظف المكان؟ قرأت السؤال على لسان الشخصية الرئيسية في «طريق الكراكي»، الرواية الجديدة للكاتب العراقي حمزة الحسن.
هل بلغنا الحد الذي لا حد بعده وصار من الضروري أن ننقرض لكي تعود مياه الفراتين إلى مجاريها الصافية؟”
في روايتنا طريق الكراكي عبارة تقول إن على جيلنا ان ينقرض لكي ياخذ التاريخ طريقه الصحيح،
تتساءل أنعام:
” هل فعلاً يجب على جيلنا أن ينقرض؟”.
الانقراض ليس زوال النوع، بل زوال شهوة الحياة والعادية والدوامة والتفسخ البطيء.
لكن الكاتبة المبدعة انعام وهي صوت منفرد ومتمرد في الرواية العراقية ومن خارج القوالب والتحيزات المسبقة، عادت عام 2024 الى الموضوع نفسه في رواية مثيرة” صيف سويسري” عن أربعة عراقيين دمرتهم أحزابهم وشوهت حياتهم وضعتهم مؤسسة طبية في بازل السويسرية لعلاجهم من” الإدمان العقائدي” في رحلة علاجية وهم:
” حاتم الحاتمي، بعثي قومي هارب من بلاده. بشيرة حسون صاج آل محمود، سجينة شيوعية تعرضت للاغتصاب في المعتقل، فكانت ابنتها سندس نتيجة للسجن والخديعة. وغزوان البابلي، المتدين الشيعي والمعتقل السابق في سجون دولة البعث أيضاً. ودلاله شمعون الآشورية المبشِّرة الدينية ليهوه، الإله المختلف عن دين طائفتها، ويُكلف الدكتور بلاسم بعلاجهم”
هل ينفع العلاج بالعقاقير من إدمان التصلب والادمان العقائدي وكشفاء من جروح الماضي النفسية العميقة؟
أم ستصل الكاتبة الى ما توصلنا اليه من أن الحل الوحيد هو أن ننقرض؟
لن تنفع كل العلاجات في أجيال حطمتها أحزابها قبل السلطة وأدمنت على أفكار تحولت الى مقدسات وقيم ومبادئ شرف وهي بعيدة عن ذلك لأن الافكار متغيرة بل من شرف الافكار أن تتغير.
بلا شك توفرت للكاتبة انعام فرصة تأمل حياة المنفيين بدقة وعمق وهي نفسها تعيش في المنفى الفرنسي منذ عام 1979 وتوصلت الى ان هؤلاء لا تنفع معهم كل مصانع سويسرا للأدوية ولا كل جلسات الاعتراف بعد أن تعرضوا لضربات مميتة لا شفاء منها ولو جاء الشفاء يأتي متأخراً كمساج لمحتضر.
إن هؤلاء ليسوا ضحايا تعيش في الخارج بل أن مصائرهم تعكس ما يجري في الداخل وكما لم ينفع العلاج مع هؤلاء لن ينفع مع من في الداخل الذين يعيشون في ظروف أسوأ وهو ما أرادت الكاتبة قوله. مخلوقات المنفى تجسد صورة المستقبل.
عشنا مع هؤلاء” المدمنين” في المنافى عشرات السنوات ولم يتغيروا بل حدث ما هو أسوأ عندما قاموا بإستدعاء المكان القديم وعلاقاته ومعاييره في مكان نظيف وتلبيسه على المكان الجديد كما يفعل حيوان في حديقة مشرقة نظيفة بتحويلها الى مستنقع.
أحياناً نقع ضحايا الأمل المفرط والمقارنات والفرح النظيف، لكن الواقع لا يخضع للمشاعر والأحلام. ظهر أن التكوينات المحلية التقليدية أقوى بكثير من أي حلم ومن أي علاج ومن أي منفى.
نماذج ” صيف سويسري” الأربعة لعبت دوراً في تاريخ العراق ودمرته ودمرت حياتها أيضاً لكن هذه النماذج لم تأت من فراغ.
من المستحيل ولادة هذه النماذج المشوهة من الفراغ لكنها كانت نائمة في سراديب نفسية كجيفة مكبوسة معتقة ثم رفع فجأة المكبس بعد الاحتلال.
ولادة مجرم واحد تحتاج الى ظروف معقدة، فكيف بهذه الأعداد الهائلة من القتلة والمشوهين؟
إن تدريب منظف منازل أو حدائق أو زجاج أو تواليت يحتاج الى تدريب ومران فكيف باعداد مجرمين ومرضى ومشوهين ومدمنين على عقائد قاتلة حملوها معهم الى الخارج كما يحمل مسافر عقربا قاتلا في حقيبة سفر؟
إن مشكلة هؤلاء لم تعد خياراً في التخلي عن الادمان العقائدي والبدء بحياة جديدة لأن القضية لم تعد قضية إرادة بل تحول الادمان الطويل الى خلايا عضوية ومشكلة بنيوية عميقة وهؤلاء أسرى ذوات معتقلة من الداخل كحال من في داخل العراق وقد لا يشعر بذلك كما لو وضع في بازل السويسرية لانه في العراق في بيئة مشابهة ومع مخلوقات يتقاسم معها المعايير نفسها والادمانات نفسه والعمى العقلي والعاطفي نفسه ويضيع الغراب بين الغربان لكن الانحراف الوجودي في النظر للذات والحياة يظهر في مكان نظيف كبازل والاشياء تظهر في مواجهة نقيضها.
يبدو الادمان العقائدي كاختيار فردي لكنه ليس كذلك بل تم وضع هذه المخلوقات مبكرا في مناخ نفسي وعقلي ونزع الشخصية وتركيب شخصية جاهزة ملقنة كما يوضع ببغاء في قفص.
إن صيف أنعام السويسري هو الصيف السويدي والفرنسي والنرويجي والانكليزي والعراقي ولو وضعت هذه المخلوقات المحطمة في أرقى الأمكنة وفي أجمل المنتجعات وتحت إشراف أمهر أطباء النفس في العالم، لما تغيروا، بل العكس سيعيدون إنتاج علاقات الكراهية والحقد وعقد الانتقام واستعمال معارات الشوارع القديمة الصبيانية في دول مفرطة في الحريات الفردية ويتصرفون كأوصياء على بعضهم ويحاسبونهم على حياتهم الشخصية كنوع من الادمان المرضي على ممارسة السلطة ولو على منفيين ضحايا للشعور بمتعة ممارسة السلطة لاثبات ذات منحرفة مشوهة ولو على ذبابة بتعبير دوستويفسكي.
،
وتجربتنا الطويلة مع هؤلاء ” المدمنين الضحايا” تثبت ذلك وأنعام كجه جي دخلت في منطقة محرمة لكنها ستصل الى النتيجة نفسها: لا علاج سوى الانقراض لمخلوقات اضاعت الطريق الى نفسها واضاعت وجوهها في منعطف ما واستبدلتها بالاقنعة ولا تعيش في حياة بل في حفل تنكري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى