نسيم قبها يكتب :حين يقتل المعلم روح الرياضيات كعدوّ جاهل في عدائه

ليس العداءُ ظاهرةً مفاجئة، بل هو نتيجة تراكمية لسلسلة من الممارسات التربوية الخاطئة التي تحوّل الرياضيات خصيصا من مادة حية تنبض بالمنطق والإبداع ، إلى كابوسٍ من الأرقام والصيغ المجردة. فكيف يصبح المعلم -عن غير قصد- العدو الأول لمادة يفترض أنه سفيرٌ لها؟
البداية تكمن في تحويل الرياضيات إلى طقوس آلية لا روح فيها ، وإلى صفّ جامد مليء بالعبوس الطفولي. عندما يختزل المعلم هذه المادة في خطوات إجرائية جافة كالطبشور تماما ، ويحولها إلى مجرد عمليات حسابية متكررة، يفقد الطالب القدرة على رؤية الجمال الكامن في التناظر الحيوي، أو الإثارة الفاعلة في حل المشكلات، أو المتعة النغنشية في اكتشاف الأنماط. فبدلاً من أن تكون الرياضيات لغةً للتفكير والتفاكر والتفكّر ، تصبح مجموعة من القواعد الغامضة والرموز التي يجب حفظها دون فهم ، وابصم يا ولد !؟.
الأمر الثاني هو عبادة الإجابة الصحيحة الغبية على حساب عملية التفكير المقصودة من عملية التعلم كلها . عندما يجعل المعلم من النتيجة النهائية هي الغاية الوحيدة لدخول الجنة ، ويعاقب على الخطأ بدلاً من اعتباره فرصة للتعلّم، فيقتل روح المغامرة الفكرية لدى الطالب ، ويقولبه كمستقبل معرفة سلبي. الرياضيات في جوهرها هي رحلة من الفرضيات والتجريب والتصحيح، ولكن عندما يصبح الخطأ “عاراً” يجب تجنبه، يفقد الطالب الشجاعة لتجربة طرائق حل إبداعية قد تؤدي إلى إجابات خاطئة في البداية ولكنها تفتح آفاقاً جديدة للفهم والتعلم.
ثم يأتي دور الفصل بين الرياضيات والحياة. عندما تقدم المفاهيم المجردة بمعزل عن تطبيقاتها الواقعية، يفقد الطالب الإحساس بجدواها. لماذا يجب أن أتعلم نظرية فيثاغورس إذا لم أرَ تطبيقها في بناء المنازل أو تصميم الجسور؟ المعلم الذي يفشل في ربط الرياضيات بالعالم الحقيقي يحوّلها إلى لغزٍ لا طائل من ورائه. تماما كعزل الرياضيات في المدرسة عن تخطيط ملاعب المدرسة ، واستيراد المأجورين لتصفيف الخطوط والدوائر.
ولا ننسى لغة الخوف والتهديد التي يستخدمها بعض المعلمين: “هذه أصعب مادة”، ” لن يفهمها إلا الموهوبون”. هذه العبارات تخلق حاجزاً نفسياً قبل أن يبدأ الطالب رحلته مع الرياضيات أصلا. بدلاً من أن يشعره بالتمكين، يشعره بالعجز والإحباط منذ بداية رحلة الاستغباء.
خير مثال على ذلك معلم يدخل الصف حاملاً سيلاً من الصيغ الجافة، ويطلب حفظها دون شرح أصولها أو فلسفتها. يتعامل مع الهندسة التحليلية على أنها مجرد معادلات، لا كقصة لقاء ملحمي وحميمي بين الجبر والهندسة. أو معلم يحل مسائل التفاضل والتكامل بطريقة آلية، دون أن يذكر أن هذه الأدوات هي ما مكّن البشر من حساب مسارات الكواكب التي يدجّل العرّافون باسمها ، وبناء الصواريخ التي تقتلنا من بعيد وقريب.
لكن الحل ممكن. على المعلم أن يعيد اكتشاف الدور الحقيقي للتربية الرياضية: ليس كمن يملأ عقولاً فارغة بمعلومات، بل كبستنة تُنمي العقول ، بذور التفكير النقدي والإبداعي. أن يتحول من قاضٍ يصدر أحكاماً (صحيح/خطأ) إلى مرشدٍ يطرح الأسئلة المحفزة: “ماذا لو جربنا هذه الطريقة؟”، “أين يمكن أن نستخدم هذا المفهوم في حياتنا؟”.
عليه أن يذكر طلابه أن وراء كل معادلة رياضية قصة إنسانية من الكفاح والاكتشاف، وأن الخطأ ليس فشلاً بل دليلاً على المحاولة. أن يجعل من الفصل مساحةً آمنة للتساؤل والمرح بدلاً من ساحة للتنافس والخوف والقولبة.
الرياضيات ليست عدوة أبدا ، بل هي رفيقة ممشوقة ، ورحلة إنسانية عظيمة في فهم العالم الذي يجهّمنا. والمعلم الناجح ليس من يملأ دفاتر الطلبة بأجوبة صحيحة بالخط الأزرق ، بل من يملأ قلوبهم بشغف الاستكشاف وعقولهم بمنطق التساؤل. عندها فقط، يتحول من عدوٍ خفي للرياضيات إلى أفضل سفيرٍ لها.
كنت قد سألت نفسي ، لماذا أكتب هذا؟ ، وقد تكون الإجابة أني اكتشفت روعة الرياضيات بعد المدرسة ، بعد الخوف ، وبعد تحرري من تلقين التفكير حتى .
سألني صديق يوما : لماذا لم نستطع قياس محيط ساق شجرة المدرسة بعلبة هندسة كاملة ؟ .