رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :الأوصياء

* على المثقف أن يشتبك في نزاع مدى حياته مع الأوصياء.
*أدوارد سعيد.
ينصح أدوارد سعيد المثقف بأن يكون في نزاع أبدي مع الأوصياء، كل الأوصياء، لان المثقف المتصالح المتطابق مع الجميع هو جزء من النظام بالمعنى الواسع للنظام، لكن من هم هؤلاء في الواقع؟ مرة كان المفكر غرامشي يلقي خطابا في حشد كبير عندما نهض شخص وبدأ يصرخ به:
” أنت مختلف، مختلف مع الجميع”،
ابتسم غرامشي وقال:” وماذا يعني لو كنت مختلفاً؟” بمعنى ماذا سيحدث لو كنت مختلفاً؟
منذ اعدام غرامشي من الفاشية عام 1937 قام الحزب الشيوعي الايطالي باخفاء مخطوطاته لانه ركز على العامل الثقافي في تغيير التاريخ وليس الاقتصاد لكن اواخر ثمانينات القرن العشرين تم الافراج عنها بعد التحولات العاصفة في اوروبا الشرقية الاشتراكية وانهيار السوفييت ودور الثقافة في التغيير وصارت “الغرامشية” مدرسة فكرية وثقافية عالمية. كان يحارب على جبهات عدة: الفاشية، الحزب، الغوغاء، التفسيرات المبسطة للتغيير، الشعاراتية، خطاب خداع الجماهير لأجل الكسب وليس نقد الأوهام.
هناك فهم شائع وخاطئ في أن نظام الرقابة والتلصص من إختصاص السلطة وأجهزتها الرقابية فقط،
لكن الأمر أبعد من ذلك بكثير وأشمل وأعقد:
السلطة الاجتماعية أول مؤسسة قمعية لها نظام رقابي ومنظومات عقابية
كالخلع والنبذ والتشهير والاقصاء وحتى القتل ونظام القيل والقال والوشايات،
وهي بنية ونواة السلطة السياسية والمصدّر الرئيس لها بجيوش من الخاضعين والخائفين والمروضين والمطيعين والملقنين .
مفهوم السلطة في الفكر الحديث لا يعني الحكومة فحسب، بل يشمل السلطة الاجتماعية والأسرة والمدرسة والشارع والمنظمة والاصدقاء وغيرها من حجوم مجهرية صغيرة.
نظام الرقابة والأرشفة والتلصص يبدأ من لحظة الولادة وحتى الموت وهناك حشد من الأوصياء،
حتى أن أحداً لم يعد يتحدث عن ملائكة الكتفين في تسجيل الذنوب والحسنات، لأن الأرشفة صارت من إختصاص الآخرين، سواء” تقارير” أتباع النظام أو تقارير أتباع الأحزاب سواء في داخل الوطن أم في خارجه لأن العقل الوصائي نفسه لم يتغير ،
بعد أن تمت سرقة وظيفة ملائكة الرب في الأرشفة بتعبير فيلسوف التفكيك
جاك دريدا في كتابه: “حمّى الأرشيف الفرويدي”.
ومن يعتقد ان هذه خاصية في الوطن لم يعش تجربة المنفى وكنا في سجون ايران والباكستان وكانت التقارير للشرطة مستمرة بين السجناء على بعضهم، وعندما وصلنا الدول الاسكندنافية وجدنا العاهات نفسها من قبل الأوصياء في استدعاء للمكان القديم وعلاقاته وممارسة “متعة” السلطة على ضحايا لأن ممارسة السلطة نوع من المتعة ولو على فاريين.
منذ تلك اللحظة تأكد لنا، قبل الاحتلال، أن هؤلاء في الطريق لبناء مسلخ بشري وهؤلاء سيخربون ما لم يخرب وبناء دولة شمولية ظالمة لأن الشيطان في التفاصيل وليس في الشعارات.
المعضلة الغريبة أن الخاضعين يتصرفون في كل صغيرة وكبيرة حسب نظام التلصص والرقباء ، سواء كان سلطة أم فرداً أم جماعة،
لكي يبرهنوا أنهم لا يعشون حياةً بل يمثلون أدواراً ، للتحاشي أو الإرضاء،
وقد لاحظ علماء النفس والحيوان أن بعض الطرائد تستسلم من الخوف للحيوان المفترس من الرعب مفضلةً الموت على المقاومة.
المفكر والروائي والطبيب النفسي والمناضل فرانز فانون مؤلف رواية: المعذبون في الأرض، لاحظ في أقفاص القرود أن القرود الصغيرة والضعيفة لشدة خوفها من القرد الكبير، تستدير له وتترك مؤخرتها تحت تصرفه…والخ،
ويتحول الإستسلام كحل بدل المواجهة وهي الخاصية المستهجنة التي لاحظها في جماعات بشرية قال عنها:
” أحط سلوك بشري” عندما تتماهى الضحية مع جلادها بسبب الخوف.
فانون الفرنسي نفسه تخلى عن جنسيته وجيشه المحتل والتحق
بالثورة الجزائرية وصار من قادتها ودفن في الجزائر.
في نظام” الأوصياء” الكل يؤرشف للكل حتى في تفاصيل خاصة لكي تظهر كأسلحة في أي إختلاف وغالبا ما يتم تخيل الآخر لا كما هو بل كما نريد أن يكون، مع إهمال تام للقضايا الكبرى المهمة:
نظام الأوصياء يتحكم حتى في أدق التفاصيل من الزي الى العقيدة المناسبة لك كما لو أنك أمام محل للأحذية أو شراء صابون غسيل.
مع ذلك يأتي مؤدلج ويقول لك توازن،
أو يقول : أنت لا تعرف العراق جيداً، كما لو أنك ولدت في حي سوهو اللندني أو موناكو أو شيكاغو، وليس فوق كدس تبن وخمس عشرة سنة حرب، وبينهما سنوات جمر قرمزية،
وثلاث مرات مربوط على شبابيك الأضرحة بسبب الهذيان في الليل
لأنك لا تستطيع الكلام في النهار. هؤلاء يعتقدون ان تاريخ العراق بدأ قبل سنوات وليس غاطسا في تاريخ قرون وثقافة وامبراطوريات غازية وتراث ومصالح دولية وتقاليد وعادات وسراديب ومكاتب وجيوش وهذه ليست على سطح الواقع لكي نراها. الواقع ليس البقاليات والشوارع والعمارات بل روابط خفية تحتاج الى تفكيك.
الأوصياء يتكاثرون كلما كبر الفرد: المدرسة، والشارع، والعشيرة، والأقارب، والأصدقاء،الأحزاب، السلطة، الأمن، الاستخبارات، الجيش، الشرطة،
الجيران وفي المؤسسة والمقهى والنادي.
اليوم إتسع النظام الرقابي. هؤلاء” التطهريون الأوغاد” الكذبة أولى بالتمرد عليهم من النظام السياسي لأنهم أساسه وعكازته وركائزه الخفية،
وهدم النظام السياسي من نخر أسسه ولا تجدي معه الإحتجاجات لأنه أصم ومرتهن وقرار التغيير ليس في يده .
الأوصياء حلفاء النظامين السياسي والاجتماعي يمارسون كل أشكال العنف النفسي والجسدي في كل مكان مما يترك أضراراً صحية مدمرة يعجز عنها نظام فاشي لأنهم في إحتكاك مباشر لصيق بالتابعين العزل.
في المدارس معلم الحساب اليساري يثقف ضد معلم الدين، ومعلم الدين يحرض ضد معلم الرياضة الشيوعي،ومدير المدرسة يحاول فرض مناهج النظام وفي صراع مع المعلمين ومع نفسه،وغالبا غير مؤمن بها، وفراش أو مستخدم المدرسة يكتب تقاريرا عن الجميع، والأم تثقف ضد الأب ما أن يخرج أو العكس.
في طفولة حساسة كل معلم يثقف ضد المعلم الآخر، فكيف يتوازن الطفل في مجتمع تتغير فيه النظم السياسية والمناهج والقيم بسرعة وقوة،
وتربية مزدوجة في كل مكان؟
حتى المعايير العامة تختلف داخل الأسرة بين الأم والأب وكل واحد يربي عكس الآخر.
في الدول الحديثة لا يجري انقلاب وتغيير المعايير والمناهج بهذه الطرق القسرية والفورية الباترة بل عبر تحول بطيء متدجرج لكي لا تهتز الشخصية،
وحتى صراع الأجيال لا يأخذ الشكل العدواني الشرس والعدائي
لأن نظام القيم العامة موحد والتغيير يتم عبر مراحل تطورية هادئة من غير عواصف سياسية،
أو تستيقظ في الصباح لتعرف أن جيش بلادك في حالة غزو لدولة مجاورة،
أو أن انقلابا قد حدث في الليل وأنت نائم،
وعليك من اليوم نسيان كل ما تعلمته سابقاً وتنزع الصور والمناهج على صور ومناهج ورموز مختلفة ومتناقضة مع السابق.
كيف يتوازان الفرد؟ التوازن ليس نصيحة بل منظومة قيم متوازنة ومجتمع مستقر ومعايير عامة تضبط الايقاع ونظام سياسي عادل وقوانين واضحة.
نظام الوصاية هو إرهاب بغطاء الاخلاق أو القانون، وخلال هذه العملية يتم محو “الذات الحقيقية True Self”،
وزرع “الذات الوهمية False Self” ، أو الذوات السلطوية، جهاز تنصت ورقابة ذاتية،
وخلق الشخصية المتشظية التي تقول شيئا وتفكر أو تفعل عكسه.
كل هذه السلط الكابوسية ويقولون للانسان أو ما تبقى منه عليك أن تتوازن
وتكون عاقلاً وحكيماً وألا تقلق،
مع أن التوازن يُبنى على توفر شروط العدالة والحق والانصاف وحياة عادلة ونظيفة دون البتر المبكر للذات الطبيعية وفرض ذاتاً مشوهة بالإكراه والتلقين والعقاب تقوم بدور: سلطة.
إن ما يعادل حكم الإعدام في الطب الحديث هو فرض شخصية على إنسان
خارج توقعاته ورغباته وما أسس عليه حياته ليكونه وتحويله إلى ممثل ومسخ يؤدي أدواراً لصالح آخرين ولا يعيش حياةً وهذا ما فعلته الأحزاب الشمولية التي لقنت ببغاوات وحطمتها وتركتها تعاني الفشل والاحباط زرعت فيها عقلية الوصاية ولو في منفى أو حتى في سجن في منفى.
هناك من يقول إنه أقسى من الإعدام لأنه محو شخصية وإحلال أخرى مزيفة،
وقتل يومي مستمر وأية مقاومة علنية أو صامتة مكلفة ونزف دائم
وهو أقذر سلوك بشري يتم بصمت وخلف الحيطان بعناوين خادعة،
لان الضحية ترى وتشعر بكامل وعيها واحاسيسها ان حياتها تتحطم وهي تتفسخ على مراحل وتتفرج على جثتها تتحلل وتتعفن وتتحول الى قبر متجول .
“السلطة المطلقة التي لا حدود لها ، نوع من المتعة ، ولو كانت سلطة على ذبابة” حسب دوستويفسكي في روايته” المقامر”.
نظام برمجة وخلق العقل الآلي الذي لا يفكر ولا يتأمل بل ينفذ، وعندها لا يحتاج المواطن الى وصاية أو ردع أو تحذير،
لأن الذات السلطوية الوهمية المزروعة فيه تقوم بالواجب بدقة ساعة سويسرية من خلال نظام رقابي داخلي كما مع الانسان الآلي:
أي يصبح الفرد سجين ذاته بمحض ارادته “لا إكراه ولا بطيخ” ومعتقلاً ذاتياً والحبل طويل وهو يعيش في وهم حرية،
لأن الحرية ترتبط بالكرامة البشرية والتفتح والقانون.
تغيير النظام السياسي ليس نزهة في حديقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى