رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب : الكتابة كتقشير البصل

ــــــــ تحب الناس وتكافئ من يستطيع تخديرها بالأوهام، منذ القدم والبشر لا تعاقب إلاّ من يقول الحقيقة، إذا أردت البقاء مع الناس شاركها أوهامها، الحقيقة يقولها من يرغبون في الرحيل* نيتشه.
من بين المفاهيم التي تعرضت للتشويه والارتجالية مفهوم المثقف ومفهوم الكاتب خاصة في مجتمعنا مع ان المثقف صاحب مشروع مضاد ورؤية بديلة ويرفض الوصاية وبلا ولاءات سوى للحقيقة ولغة خاصة وعنصر تحفيز ولا يسعى لارضاء الجمهور بل تحريضه على الوعي لانه ليس مطرباً لكي يكون” محبوب الجماهير” كما فعل “المثقف” الشعاراتي الحزبي الايديولوجي تسويغ نفسه ومدح الأوهام لأجل الكسب السياسي وهو في الواقع ببغاء في قفص الذي توقف في السنوات الاخيرة عن تسويغ مشروعه لانهيار المشروع أولاً، ولأن حزبه لم يعد بحاجة الى المثقف بل للممول وللشيخ والمقاول والحليف ولو كان رجعياً ومتخلفاً وعدواً كما كان يشنع عليه في السنوات الماضية.
من أهم واجباته تعكير الهدوء المزيف والمياه الراكدة وان يكون كثعلب دخل في قن للدجاج وترك خلفه الغبار والصراخ ولم يلتفت. المثقف الشعاراتي الثورجي محبوب الجماهير بارت بضاعته حتى في نظر نفسه ولم يعد لديه بعد افلاس المشروع وافلاس اللغة غير البوم الصور القديم عن ايام العز والفلقة والتخفي في التنانير او في جحور ثم عاد يطالب براتب خدمة نضالية يوم كانت مطحنة الحروب تطحن رجال العراق وتنتج اليتامى والارامل.
كما ان مفهوم الكاتب هو الآخر لا يتطابق مع كل من حمل القلم وكتب وألّف، ما لم تكن الكتابة قصة حياة مختلفة وحلماً بواقع مختلف وعلى ان لا يكون الكاتب عنصر تهدئة بل يكون” صداعاً” يومياً يحرك المياه الراكدة ويثير النقاش المثمر حول قضايا حيوية ــــــــ كان الروائي الألماني غونتر غراس حامل نوبل يوصف من خصومه بــــــــــــ ” الصداع ” لأن كل مقال يكتبه كان ورطة جديدة حتى اتهمته اسرائيل بمعاداة السامية. الكتابة عند غراس نوع من” تقشير البصل” عنوان سيرته الذاتية وليست تبادل مدائح بين أصدقاء على حساب شروط الثقافة والأدب وخداع القارئ.
ظاهرة غريبة في الوسط الادبي العراقي لا وجود لها في اي وسط عربي او غربي وقد عشت الاثنين شرقاً وغرباً ولم اعثر على هذه الظاهرة البدوية والقبلية:اذا اختلفت مع أحدهم،
يغضب الجميع منك حتى بلا معرفة خلفيات الاختلاف، كما لو أننا أمام شيخ ومريدين وأتباع، وعندما تتصالح معه يتصالحون معك بلا معرفة السبب كما لو اننا في خيمة مضيف وفصل عشائري وانتهت المشكلة،
كما لو اننا امام اتباع الاحنف بن قيس شيخ بني تميم (نحو 20 ق هـ – 72 ه) اذا غضب سُلّت السيوف بلا سؤال واذا رضي عادت الى اغمادها بلا سؤال.
كما لو اننا لم نغادر زمن القبائل وزمن الشاعر جرير:
“اذا غضــبت عــليك بنــو تميم ــــــــــ حسبت النــاس كلــهم غضابا”.
حتى الشاعر جرير (33 هـ – 110 هـ/ 653 – 728 م) لم يستوعب هذه الظاهرة في قبيلة، فكيف في نخب تسمى نخب الأدب؟
حتى من لا يعرفك يتضامن مع قبيلة الكتاب ويتعايش مع صورة متخيلة لك على انها حقيقة ثم يتحف القراء في اليوم التالي بمقالات عن البنيوية والتفكيكية والنص المفتوح والنقد الموضوعي واستقلالية الكاتب والخ من انتحالات النقد الفرنسي.
في كتابه” السلطة الثقافية والسلطة السياسية” يتابع البروفسور والمفكر المغربي علي أومليل ظاهرة ولادة المثقف العربي عبر التاريخ وظاهرة ولادة المثقف الغربي ويثبت انه في كل مراحل التاريخ كانت السلطة الثقافية تعمل ياستقلالية وبالضد من السلطة السياسية وتحد من غطرستها، لكن في العراق من الصعب جداً التفريق بين سياسي ومثقف سواء كان روائيا ام شاعرا أم ناقداً ، بل السياسي يعترف ضمناً بعدم اقترابه من الادب لأنه مجال وحيد لا ينفع الكذب فيه لأنه يتأسس على انجازات.
هؤلاء لا يكتبون أفكارهم ولا مشاعرهم بل يكتبون قراءاتهم،
ومن الصعب فهم هذه الظاهرة دون أن تكون عشتها كتجربة مع هؤلاء.
استقلالية المثقف والكاتب جزء جوهري من الضمير ومن الشرف ومن الابداع وبلا ذلك هو “عرضحلجي” كاتب شكاوى أمام محكمة ولو نشر الف ديوان شعر أو الف رواية أو الف سيرة.
كيف يكتب هؤلاء؟ وماذا يكتبون؟ اذا كانوا أقل وعياً وحساً بالعدالة من شيوخ القبائل؟
الناقد الفرنسي الكبير رولان بارت ميز بين “الكاتب” المبدع الذي يكتب من أعماقه وبين “المستكتب” الذي يكتب قراءاته ، أي النساخ والمنتحل والنساج. بين الخالق وبين الصانع.
الحشود في السياسة وفي الثقافة وفي المجتمع لا تحب الفردية والتميز والاختلاف لانها تربت ولُقّنت على شراء الأوهام من باعة أوهام السياسة، وعلى التطابق وعلى ” وحدة الصف” وهو مفهوم بوليسي لا يوجد سوى في المقابر لأن وحدة الصف في التنوع وفي التعدد وفي الاختلاف المنتج.
الصورة: الروائي غونتر غراس حامل نوبل مطارداً من رجل أمن في جمهورية ألمانيا الشرقية الاشتراكية والصورة مفرج عنها من سجلات الأمن مؤخراً وتم التعتيم على وجه رجل الأمن لأن النظام مسؤول. السلطة رغم الجيوش والحلفاء والمال وعناصر القوة لكنها تخاف من سردية الروائي التي تتناقض مع سرديتها وتكذبها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى