كتاب وشعراء

قِيامةُ الحَنين/للشاعر السوري محمد عيسى

قِيامةُ الحَنِيْن
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عُدْتَ يا خريفُ وما عادتْ.
لا فستَانُها علَى الكرسيِّ
ولا حذاؤُها أمامَ البابْ
حتّى شَعرُهَا
لا شيءَ منهُ بينَ أسنانِ المشْطْ.
ما عادَ فنجانُ القهوةِ
يتلوَّنُ بالحمرةِ على أطرافِهِ
وما عادتْ رائحةُ عطرها
تُذكِّرني بِها.
عُدْتَ يا خريفُ وما عادَتْ.
شرَّقتْ أيامُهُمْ
وغرَّبَتْ أيامُنا
ها هوَ الشّمال
يهيِّئُ طيورَهُ الشتويّةَ
وأنَا أهيئُ قلْبي
لأُطلقَهُ مع أوّلِ سربْ.

عُدْتَ يا خريفُ
وعادَ الأولادُ يملؤونَ الطُّرقَاتِ
ذهاباً إلى المدرسة
لقد هيَّؤوا الدفاترَ
كمْ من الورقِ سيطَّايرُ هَذَا العَامْ؟
سيرسِلُونَ نماذجَ خطّهمْ معَ الريح
هَذا خطُّ ولدٍ
وذاكَ خطُّ بنتْ.
فالألفُ في خطها
أطولُ من الألِفِ في خطّهِ.

عُدْتَ يا خريفُ وما عادَتْ
نفقتْ بَيادرُنا
وحلاوةُ العِنَبِ عَلى آخرها
تتسلَّلُ خُلسةً
إلى خوابي النّبيذ
وقناني العرقْ.

عُدْتَ يا خريفُ وما عادَتْ
لا جالسةٌ أيامُنا ولاَ واقِفَة
ولكنْ
قليلاً فيها انحنَاءْ.
قريبةٌ ولائمُ الدفءِ.
كم سأظنُّ
بأنّ الفتحةَ التي في أسفلِ البابِ
هي المسؤولةُ عن البَرْد؟!
وصوتُ المطرِ خلفَ الجدرَانِ
ــ والنوافِذُ مُسْدَلَةٌ ــ
كم سأخالُهُ ضيوفاً قادمينَ،
أو ربَّما، صوتَ خُطاهَا؟!

عُدْتَ يا خريفُ وما عادَتْ.
عَمّا قليلٍ سَنُطلقُ مدافِئَنَا
كمدفعٍ قديم، غَصَّ بدخانِ البارود.
ليس خريفاً أن تهبَّ الرّيحُ
ولا ينثرُ الحورُ أوراقَهُ على السّاقية.
ليسَ شتَاءً
أن نضعَ مسماراً في الحائِطِ
ولا يقصُّهُ البردُ.
ليسَ دفئاً
أن تنامَ وحيداً
وأنتَ طافحٌ بالعشْق.

عُدْتَ يا خريفُ وما عادَتْ.
لا شتاؤُنا باقٍ
ولا ربيعُنا طويلُ.
حتى الحبُّ
إن وقعَ في الشّتاء
يرحلُ في الرّبيع
وإن أتى في الرّبيع
يغيبُ مع الصّيفْ
وحدَهُ الخريفُ يوزِّعُ الأدْوَار
ويعيدُ الكرَّةَ من جديدْ.

عُدْتَ يا خريفُ ورحلْتَ يا خريفُ
عُدْتَ يا شتاءُ وأتيتَ يا ربيعُ
حَلَلْتَ يا صيفُ وما عادَتْ.
لا شمسُها عَاليَةٌ
ولا حبلُ غسيلِها ممدُود
ما عادَ الدوريُّ يطيرُ عن شرفَتِها
كلّما فَتَحتِ النّافذةَ.
وما عاد مُهاتِفُها
يسمعُ سوَى الرّنينْ.
بِعُقدةِ الإصبعِ
طرقْتُ بابَها أَوَّلاً
ثم براحةِ اليدِ
فبكاملِ القبضةِ
وما مِنْ أحدٍ!
أفسَحَ لنا عبور الخشَبْ.
إطارُ بابِها كأنّه جرحٌ
التأمَتْ ضفّتاهْ
وشفيَ القفْلُ
من طعنةِ المفتاحْ.

عُدْتَ يا خريفُ
وعادتْ رائحةُ الأرضِ
تشلعُ الروحَ
وتعلنُ،
قيامةَ الحنين.
***

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى