حمزه الحسن يكتب : مخلوقات العنف المؤجل

ـــ غالباً ما يصدق الانسان الكذب اذا كان يعيش في الأمل* إريك ماريا ريمارك، مؤلف: ليلة لشبونة.
لا شيء يستنزف الانسان اكثر من الخوف والامل والانتظار،
والحل الوحيد لعبور الخوف مواجهته لانه مثل كرة الثلج يتضخم كلما تدحرج،
وتجاوز الامل بخلقه مهما كان الثمن، حتى الفشل انجاز لاننا نتعلم أكثر ونتكون، الامل صناعة،
والأمل الزائف الساذج ويسمى البانغلوسين Panglossian، أكبر مصادر الأوهام والخيبات، وهو نظام المتاهة والحلقة المفرغة والانسان يموت عندما تموت مشاعره واحاسيسه ويصبح جيفة متنقلة بكامل اناقتها.
عندما لا يستطيع الانسان التعبير عن مشاعره وأفكاره، ينزل للقيعان السرية لبناء عالم تخيلي،
هناك يعمل اللاوعي على تحقيق كل ما فشل الوعي في تحقيقه من أحلام سوية وبسيطة وعادلة،
بل يذهب أبعد من ذلك لتحقيق بطولات خارقة، وعمليات انتقام أسطورية من أعداء النهار،
لكنه في الصباح يكتشف بؤسه وعجزه أمام أول عابر طريق أو جار لكي تبدأ لعبة المراوغة وتعدد اللغة وتعدد الشخصيات مع عدد الذين يلتقي بهم للتحاشي والتجنب.
تشظي اللغة يحوّل الانسان الى أنقاض بالكاد يعرف من هو لأنه يقول شيئاً ويفكر بآخر ويفعل عكس الاثنين،
ويسحق البنية العضوية للذات ويخلق هوية مزورة واقنعة، هوية مصنعة عامة تصلح للجميع.
بهذا الطريقة طاردت الدكتاتورية والمجتمع المغلق الناس، العقاب على النوايا والأحلام المكتشفة، آخر المعاقل السرية للتنفيس،
لكن ماذا يحدث في أعماق الانسان في هذه الحالة عندما يعيش في مخبأ
نفسي سري؟
النتيجة التشظي النفسي والمرض والقنوط والدونية والخوف المزمن
والتشوهات الفكرية التي تظهر عكس حقيقتها في حيل نفسية متنكرة وتعدد الشخصيات،
وتقوم الاحلام السرية بالتعويض عن واقع شرس، وعندها تبدأ أخطر عملية في الذات وهي الانتفاخ المرضي لضخامة الأحلام والأوهام،
وهذه الذات المنتفخة المريضة تجد فرصتها في انهيار النظام، وزوال المكبس والكابح كما حدث بعد الاحتلال وكما حدث في سوريا .
يخرج السر الى العلن ويتحول المكبوت الى الفعل، وتصبح شهوة الانتقام السرية علنية، ويُصدم الناس من مظهر الجيران والأصدقاء الجديد،
وهو ليس جديداً في الحقيقة بل كانوا متنكرين ومختفين
في قيعان واوكار واقبية واقنعة نفسية عميقة.
لم يعد هناك اللاوعي القديم بل وحدها الذات المنتفخة والاحلام السرية
تحقق وجودها على بشر حطام وعزل، وهي فرصة الضحية للتعويض عن ذل معتق لأن التعويض والانتقام الحقيقي من الماضي هو بناء دولة عادلة،
وليست دولة تشبه أحلام القبو النفسي السري. صار ضحايا الامس جلادي اليوم في دورة مكررة.
هكذا كانت معارضة الأمس وسلطة اليوم. معارضة أحلام ومشاعر تعويض وإنتقام، وليست معارضة مشروع تنمية نهضة. درب الوحش ضحاياه على الغدر والانتقام وترك مخالبه في النفوس ورحل جسدا ولم يرحل كعقلية. الطاغية حي لأنه ذهنية وليس فرداً.
هل نحن اليوم في الزمن نفسه؟معارضة القبو السري في غياب البديل؟
عندما ينهار القبو السري النفسي، تخرج في الفوضى كل الاستيهامات والاحلام والأوهام السرية لتفرض حضورها القاتل كتعويض عن سنوات الدونية،
كمخلوقات تخرج من الجحور على ضوء القمر.
مات اللاوعي القديم مخزن الاحلام المقموعة وصار وعياً وخرج الوحش وتحول الى افعال، وكبر صل الافعى وصار سلطة،
لم تعد هناك الأحلام السرية لأن المواطن يحقق ما يريد على أرض الواقع بطرق للتعويض غير سوية.
في هذه الحالة سنكون أمام مواطنين إثنين: مواطن السلطة و المواطن الآخر المقصي،وأمام مجتمعات ، مجتمع السلطة والاجهزة والحواشي والاتباع،
والمجتمع المعزول والمقصي وهو الأغلبية الساحقة. ولدت الحشود المتعادية المتناقضة ومات مفهوم الشعب كنسيج موحد في الاقل على قضايا الحرية والثروة والسيادة والمستقبل. كل طرف يملك مفهوما خاصا عن كل هذه القضايا تتعارض مع الطرف الاخر.
عدنا ثانية الى دورة تكرارية للقبو السري، أي الاجترار وتشظي اللغة والاختباء والتربص في قيعان نفسية. ليس صدام حسين وحده من إختبأ في حفرة،
نحن جميعاً نختبئ بحفر فكرية ونفسية وسياسية أعمق، ولا يحتاج اكتشاف ذلك غير لحظة صدق ومكاشفة مع النفس.
هل نستطيع أن نكون كما نريد أو كما يراد؟ هل أنا واحد مع الناس؟
هل أقول شيئاً وأفكر وأفعل عكسه؟ نحن في هذه الحالة أمام أكثر من شعب وأكثر من مواطن، وأكثر من واقع. المجتمع القديم يتفسخ وأنتج مجتمعات:
وظهر المواطن الموالي والمواطن المحتج. ظهر مواطن جديد بعناوين جديدة:
المواطن الذيل والارهابي والعميل والمفخخ وأولاد المتعة وأولاد السفارة واولاد الرفاق…والخ.
هناك لغة مواطن السلطة ولغة مواطن الشارع، صراع على الارض وصراع لغوي وتضارب مفاهيم، أفعال مواطن السلطة وأحلام مواطن القبو،
الواقع الظاهري والواقع المخفي،
وهو أمر يستعصي على الثقافة السياسية السطحية المهتمة بكل ما هو عابر ومظهري نتيجة سنوات من تلقين
نظم الحكم والاحزاب التي خلقت المواطن المخصي عقلياً، لكنه المجتر وعاشق الشعارات الكبيرة في حين الحقائق في الظلال الخفية والتفاصيل المهملة المنسية.
الصراع الخافت لن يظل خافتاً، دورة جديدة من التربص في إنتظار رفع المكبس عن البالوعة السرية،
وفي أي إنهيار جديد سيخرج المقصي والسري والمكبوت للعلن كما حدث بعد الاحتلال، كصلال الأفاعي في الرمل ونعيد دورة انتاج القمع.
مع إنسان غاطس هو الآخر في قيعان نفسية عميقة، ينعدم أي شكل من أشكال الحوار وتصبح اللغة أداة نفي وليست أداة تواصل وتتحول الحياة إلى حفل تنكري بالاقنعة والويل لمن يدخل الحفل بوجهه الحقيقي. الكلمات العفوية العادية تفسر في غير محلها كشفرات سرية وتفقد اللغة براءتها.
الكل في مخبئه السري.
لا مكان للبراءة والعفوية بل هو زمن الشطارة والحيلة. واقع في الظاهر عادي لكنه قناع وانسان في الظاهر متماسك وهو انقاض كما لو اننا لسنا في مجتمع بل في مسرح للتهريج والاقنعة:
هنا مجال عمل الفكر والأدب في كشف النقاب لكن الانشاء السياسي الباهت لا يساعد على ذلك وعاجز عنه.
فشلت نخبة في قراءة مختلفة للواقع. في عقلية المخبأ السري نحن أمام عنف عام مؤجل،
ويمكن ملاحظة أن الأفراد في دول المنفى الديمقراطية الذين عاشوا في مرحلة عمل سياسي سري أو ظروف قمع،
تهيمن عليهم النظرة الارتيابية وقراءة رسائل مشفرة بوليسية من أبسط الأفعال لأنه ليس من السهل الخروج من القبو الى الحرية، ويستدعون مخاوف المكان القديم وتلبيسها على الواقع الجديد للتوازن. الكل يتحول الى علماء نفس عن بعد بعد فشل الوصم السياسي القديم بالعمالة والخيانة. حلت بدلها مفردات علم النفس كالفوبيا والرهاب والعصاب النفسي كما لو ان واقع العراق في القرن الماضي واليوم ينتج ملائكة وبشرا مثاليين مع ان الانسان المثالي لا يولد في مجتمع قمعي مطلقاً.
للقمع طقوس وعادات عميقة والحرية والفتية في المنفى بلا تقاليد. سيقال كما هو اليوم إن الناس تغيرت ، ليست هذه هي الحقيقة لأن الشعوب تحتاج لسنوات وفي حالات الى قرون لتغيير قناعات وتقاليد ومعتقدات راسخة،
وبعد سقوط الاندلس بقرون ظل العرب يحتفظون بهويتهم
الدينية وبالاسماء العربية في البيوت وهوية واسماء مؤقتة للتحاشي خارجها.
حتى اليوم هناك من يمارس عادات سومرية مثل رش الماء خلف المسافر لعودة آمنة ، ورمي سبع حجرات خلف من لا نريد له أن يعود.
كم حجرة نحتاج اليوم؟
كل من يصدق اكذوبة ضخمة تم تسويقها بمكر وخبث في أن الواقع القديم مات ونحن أمام واقع جديد مختلف، هو غبي أو مسطح أو ساذج،
لأن الواقع هو نتاج تراكم قرون وأسبابه لا تظهر للعلن، بل تكتشف في البحث والدراسة والتأمل،
وما يظهر من واقع” جديد” هي واحدة من ألاعيب الواقع عندما يتنكر ويحتجب. الواقع الحقيقي ليس الظاهر بل المخفي في سراديب وتراث ودول ومصالح ومكاتب وجيوش ومخابرات وليس بقاليات وحمامات وحافلات وعمارات في الشوارع مرئية.
الواقع ليس أثاثاً أو ديكوراً ليتغير بل هو منظومة مفاهيم وعادات وأفكار جديدة. لا الواقع القديم مات، بلغة غرامشي، ولا الواقع الجديد ولد:
الواقع القديم يحتضر ويتفسخ ولا يموت، والواقع الجديد طلق بلا ميلاد وعاصفة بلا هبوب،
في الحالتين تفسخ القديم والجديد بلا موت ولا ميلاد.
هذه أعراض لحظة المنعطف التاريخية وتشوهاتها. خرج الالمان من النازية بعقدة الشعور بالذنب، واتجهوا نحو البناء،
وخرجنا من الدكتاتورية بعقدة الشعور بالغطرسة وانتفاخ الذات المرضي
واتجهنا للخراب والانتقام وعقلية الثأر وخسرنا جميعاً و سنخسر ضحايا وجلادين كما حدث في الماضي.
لا يحدث التغيير حسب اليوم الأخير من التقويم، لا يفيق الناس فجأة ليجدوا أنفسهم ملائكة أو شياطن، هذا تسطيح وقح للذات البشرية،
كل ما حدث وسيحدث هو أقنعة تسقط، وأقبية نفسية تنهار،
ومشاعر وأحلام وأفكار ولغة تخرج للعلن من بالوعة الجيف السرية ومن انسان دفن حيّاً داخل جلده وخرج الى ضوء النهار ليدخل في دوامة أخرى.
الصمت لا يعني دائما القبول والهدوء بل قد يكون علامة على عنف خفي مؤجل ينتظر رفع الغطاء والمكبس عن علبة الشر.