رؤي ومقالات

إبراهيم نوار يكتب :التنمية و معضلات الديون والعجز والتفاوت وتدهور البيئة

أطلت علينا الحكومة بغرض طمأنة الكثيرين على مستقبل مصر الاقتصادي في مرحلة “ما بعد الصندوق” بما يشبه حدوتة قبل النوم، في قضايا لا تجوز فيها الحواديت، مثل التنمية، إلا إذا كان غرضها هو أن يخلد الناس للنوم وهم في راحة بال وطمأنينة تاركين الأمر لسيادة “الدولة المصرية” تعتني به قائلة لكل واحد منهم: “اتغطى ونام.. كل شئ تمام”. أو كما قالت العرب: “دَع المقاديرَ تجري في أعَنّتها.. ولا تبيتنّ إلا خاليَ البالِ”. وأعلنت الدولة ما أطلقت عليه: “السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية”. و اعتقد أن تعليق الأستاذ الدكتور محمود محيي الدين هو أفضل ما قيل في “السردية”، عندما ذكر في أحد لقاءاته الأخيرة: “ما نحتاجه من الحكومة فعلا ليس قدرتها على السرد، ولكن قدرتها على تطبيق برنامج تنفيذي يلبي احتياجات الناس بمؤسسات وسياسات فاعلة، وتقييم مستمر لتطور الاستثمار والتصدير والتعليم الصحة وتوطين التنمية.”
لقد أظهرت السنوات العشر الأخيرة أن الاستدانة لم تحل مشاكل التنمية بل إنها زادت الطين بله. وأن برنامج صندوق النقد الدولي لم ينجح في إنهاء العجز المزدوج المالي والتجاري وتداعياته. وأن السياسة الاقتصادية، التي حرص الصندوق دائما على غسل يديه منها، مؤكدا في كل بيان له أنها “برنامج وطني للإصلاح الاقتصادي مصنوع محليا” لم تنجح في إكساب الاقتصاد قدرة كافية على الصلابة وزيادة التحمل، وهو ما نقل عبء مقاومة أو تحمل الصدمات المفاجئة وتداعياتها إلى أكتاف وظهور المواطنين. كما أظهرت السنوات العشر الأخيرة هشاشة منظومات الأمن الغذائي، وأمن الطاقة، والأمن المائي، وتدهور كفاءة منظومات التعليم، والرعاية الصحية و ضعف معايير حماية البيئة.
ومهما كانت وعود الحكومة بشأن ضمان استدامة التنمية، فإن أعباء الديون المحلية والخارجية التي تشمل سداد الفوائد والأقساط إلى جانب العجز المزدوج المالي والتجاري، تهدد مؤشرات النمو والتشغيل. بينما يمثل التفاوت الاجتماعي والتباين الجغرافي في توزيع الدخل والثروة، عقبة كبيرة تحول دون تحقيق معدلات نمو عالية ومستدامة كما تدعو وثائق الأمم المتحدة. ولا تتوفر آفاق جيدة لأي رؤية تنموية لا تضع برنامجا عمليا للتعامل مع القضايا المشار إليها و سد الفجوات التي تغذيها. بمعنى آخر فإن حدوتة قبل النوم تصبح مملة وسخيفة ما لم تتعامل مع القضايا التي يستيقظ المواطن على أعبائها وينام محملا بهمومها. وإذا طالعنا نص الحدوتة فسوف نجد أن الهم الأول للحكومة هو ضمان الاستقرار، وأن تظل التنمية حبيسة داخل دائرة مغلقة، تحوطها من كل جانب أسوار الوثائق التي صدرت في السنوات الأخيرة بتوجيهات من الصندوق، ولكن في غياب رقابته فيما بعد، ومنها وثيقة ملكية الدولة، وقانون المالية العامة والتخطيط والاستراتيجيات المتوسطة المدى للإيرادات والديون.
العجز المالي
تعاني مصر من عجز مزدوج مالي (عجز الميزانية) وتجاري (عجز التجارة السلعية). ومن الصعب الحديث عن استقرار اقتصادي بدون التصدي لهذا العجز المزمن. ومن أسوأ مصادر العجز المالي في مصر فوائد الديون الحكومية التي تلتهم أكثر من 90% من الإيرادات الضريبية. فكأن الناس تكد وتعرق وتدفع الضرائب لسداد جزء من خدمة ديون الحكومة، لأننا إذا أضفنا قيمة أقساط الديون إلى الفوائد، فإن كل الإيرادات الضريبية لن تكفي. خلال الفترة من أول يوليو 2024 حتى نهاية مايو الماضي ابتلعت فوائد الديون أكثر من 90% من الضرائب التي دفعها المصريون.
وبسبب أعباء الديون، تهبط الاستثمارات وينخفض نسبيا مستوى معيشة المصريين من عام لآخر مقارنة بالدول المحيطة. على سبيل المثال فإن متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي في مصر أصبح أقل من مثيله في جيبوتي! كما أن حصته من الناتج أقل من نصف متوسط حصة الفرد في العالم العربي (44%) وأقل من ربع متوسط نصيب الفرد في العالم (24%) طبقا لبيانات البنك الدولي. وقد بلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج في مصر العام الماضي 3338 دولارا بينما بلغ نصيب الفرد في جيبوتي 3496 دولارا. نصيب الفرد من الناتج في مصر يقل عن مثيله في الأردن ولبنان والمغرب وتونس! الحدوتة لم تقدم لنا سوى وعود لا تسندها خطط محددة تضمن تحقيق المستهدفات الكمية. وبالمناسبة فإن وزارة التخطيط توقفت منذ سنوات طويلة عن نشر تقارير متابعة الخطط السنوية، وهو إجراء يعكس أمعانا في عدم شفافية البيانات الحكومية و التهرب من المساءلة.
العجز التجاري
في الشهر الأخير من السنة المالية الاخيرة (يونيو 2025) زاد العجز التجاري بنسبة 23.4% عن الشهر المقابل من السنة المالية السابقة ليصل إلى 4.4 مليار دولار. وجاءت هذه الزيادة نتيجة ارتفاع قيمة الواردات بنسبة 14.4% إلى 7.9 مليار دولار، نتيجة زيادة واردات الغاز الطبيعي بنسبة 53.5% (وهو أحد تداعيات فجوة الطاقة التي تجسد غياب أمن الطاقة)، و ارتفاع قيمة واردات سيارات الركوب وقطع غيارها بنسبة 71% ، وقد ارتفعت واردات مصر من قطع غيار السيارات بنسبة 71.9% على أساس سنوي خلال النصف الأول من عام 2025، لتصل إلى 646.4 مليون دولار، مقابل 375.9 مليون دولار خلال الفترة المماثلة من عام 2024. هذا يفسر الى حد كبير القفزة في إنتاج السيارات الذي يعتمد على التجميع واستيراد المكونات. ورغم أن الصادرات السلعية في الشهر نفسه حققت زيادة، إلا أنها كانت زيادة محدودة بنسبة 4.7% فقط تعادل أقل من ثلث معدل الزيادة في الواردات. وكانت أبرز الزيادات المحققة في الصادرات، الملابس الجاهزة بنسبة 29%، وهي زيادة تعكس النشاط الملحوظ للاستثمار ات التركية والصينية في هذا القطاع. كماحققت صادرات الخضروات والفواكه زيادة بنسبة 48% وهي زيادة تعكس عوامل موسمية. ومن الملاحظ أن عجز الميزان التجاري في الأشهر التسعة الأولى من السنة المالية الأخيرة قد سجل ارتفاعا بنسبة 33% تقريبا ليصل إلى 38.3 مليار دولار بنسبة تتجاوز 10% من الناتج المحلي الإجمالي، كما بلغ العجز في الحساب الجاري 13.2 مليار دولار، رغم زيادة تحويلات العاملين بنسبة 86% وزيادة الفائض في الإيرادات السياحية بنسبة 23% .
إن حدوتة أو سردية التنمية الاقتصادية تعيد تكرار البيانات الحكومية السابقة، و تشرب من البئر نفسها التي شربت منها السياسة الاقتصادية التي تمت صياغتها تحت إشراف صندوق النقد الدولي. قبل نهاية العام القادم ستنتهي مهمة الصندوق فيما يتعلق ببرامج الإصلاح والسياسة الاقتصادية، لكن التحديات التي تواجهها مصر لن تنتهي، بل من المرجح أن تزيد. ولا توفر حدوتة أو سردية الحكومة عن التنمية أي أساس صلب للاعتقاد بأن السياسة نفسها سوف تتمخض عنها نتائج مختلفة بعد أكثر من عشر سنوات من إعادة إنتاج الفشل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى