رؤي ومقالات

محمود جودت محمود قبها يكتب :الاعتراف الدولي بفلسطين مسار طويل نحو الشرعية الوطنية’’’

قضية فلسطين لم تكن يوماً شأناً محلياً يقتصر على حدود جغرافية ضيقة بل شكّلت منذ بداياتها محوراً مركزياً في النظام الدولي واختباراً حقيقياً لمدى صدقية القوانين الأممية والمبادئ الإنسانية التي طالما رفعتها الشعوب والأمم فمنذ النكبة عام 1948 مروراً بالاحتلال عام 1967 وصولاً إلى الاعترافات الدولية المتعاقبة بالدولة الفلسطينية ظلّ الشعب الفلسطيني ينسج نضاله بين الميدان والدبلوماسية بين الدماء والبيانات وبين التضحيات والمواقف.

الاعتراف بفلسطين ليس منّة من أحد بل هو استحقاق وطني وقانوني وأخلاقي جاء ثمرة لمسيرة طويلة من الكفاح الشعبي والرسمي واليوم ونحن في عام 2025 نقف أمام مشهد دولي تتوسع فيه دائرة الاعتراف بدولة فلسطين ليبلغ عدد الدول المعترفة أكثر من 159 دول بما فيها قوى وازنة في أوروبا وأمريكا اللاتينية وأفريقيا وآسيا في لحظة يمكن اعتبارها تتويجاً لعقود من الصبر والمقاومة والصمود.

جذور المسألة الفلسطينية في الشرعية الدولية منذ صدور قرار الأمم المتحدة رقم 181 عام 1947 الذي نصّ على تقسيم فلسطين إلى دولتين، ظلّت فلسطين حاضرة في القانون الدولي ككيان مغيَّب قسراً فالمجتمع الدولي وهو يقرّ بقيام إسرائيل كان ملزماً في الوقت ذاته بقيام الدولة الفلسطينية لكن التوازنات الاستعمارية وموازين القوى حالت دون ذلك على مدى العقود صدرت عشرات القرارات عن مجلس الأمن والجمعية العامة من أبرزها القرار 242 (1967) و338 (1973) و3236 (1974) وكلها رسّخت حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وإقامة دولته المستقلة.

بقي التنفيذ رهينة إرادة القوى الكبرى إن الاعتراف الدولي بفلسطين لا ينطلق من فراغ بل يقوم على أسس قانونية راسخة حيث يعتبر الشعب الفلسطيني شعباً أصيلاً على أرضه خضع لاحتلال طويل ويمتلك جميع مقومات السيادة من أرض وهوية وثقافة وتاريخ ومن هنا فإن مسار الاعتراف بالدولة الفلسطينية يمثل استعادة لحق مسلوب لا أكثرإعلان الاستقلال عام 1988 وبداية الموجة الأولى من الاعترافات في الخامس عشر من نوفمبر عام 1988 وقف الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات في الجزائر ليعلن من هناك استقلال دولة فلسطين ذلك الإعلان كان بمثابة لحظة فاصلة في التاريخ السياسي الفلسطيني إذ تحوّل الكفاح من مجرد حركة تحرر وطني إلى مشروع دولة ذات سيادة معترف بها.

وقد فتحت تلك اللحظة الباب أمام موجة واسعة من الاعترافات خاصة من الدول العربية والإسلامية ودول العالم الثالث المنضوية تحت لواء حركة عدم الانحياز بحلول مطلع التسعينيات كانت أكثر من مئة دولة قد اعترفت بدولة فلسطين ما أعطى زخماً سياسياً ودبلوماسياً للمشروع الوطني ورسّخ مكانة منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني في المحافل الدولية غير أنّ هذه الاعترافات رغم أهميتها لم تترجم إلى واقع ملموس على الأرض وظل الاحتلال يفرض سيطرته بالقوة العسكرية والاستيطان .

محطة أوسلو وتحديات الاعتراف الناقص اتفاقيات أوسلو عام 1993 جاءت بوصفها محاولة لفتح مسار سياسي جديد لكنها عملياً أدخلت الاعتراف الدولي في مأزق فبينما اعترفت منظمة التحرير بدولة إسرائيل لم تعترف الأخيرة بدولة فلسطين بل اكتفت بالاعتراف بالمنظمة كممثل للشعب الفلسطيني لقد كان ذلك خللاً بنيوياً في المعادلة إذ فتح الباب أمام استمرار الاحتلال بحجة التفاوض على الوضع النهائي في تلك المرحلة تعاملت كثير من الدول الغربية بازدواجية فهي دعمت عملية السلام لكنها تهربت من الاعتراف الصريح بفلسطين مكتفية بتقديم الدعم المالي والإنساني للسلطة الفلسطينية وهذا الموقف رغم أنه ساعد في بناء مؤسسات الدولة الوليدة فإنه ساهم أيضاً في ترسيخ الاحتلال وإعطائه الوقت الكافي لتعميق مشروع الاستيطان.

اعتراف الأمم المتحدة عام 2012 بفلسطين دولة مراقب في التاسع والعشرين من نوفمبر 2012 صوّتت الجمعية العامة للأمم المتحدة بأغلبية ساحقة لمنح فلسطين صفة دولة مراقب غيرعضو وهو ما اعتُبر اعترافاً أممياً بشرعية الدولة الفلسطينية على حدود عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية هذه الخطوة كانت تتويجاً لسنوات من الجهد الدبلوماسي الفلسطيني وأرست قاعدة جديدة في التعامل الدولي مع فلسطين لقد مكّن هذا الاعتراف فلسطين من الانضمام إلى العديد من المنظمات والمعاهدات الدولية وفي مقدمتها المحكمة الجنائية الدولية ما منح الفلسطينيين أدوات قانونية لملاحقة الاحتلال على جرائمه ورغم معارضة الولايات المتحدة وإسرائيل وبعض الدول الغربية فإن القرار الأممي عزز مكانة فلسطين كعضو أصيل في المجتمع الدولي.

موجة الاعترافات الجديدة 2024 – 2025 شهد عام 2024 بداية تحولات جذرية في الموقف الدولي حين أعلنت دول أوروبية كبرى مثل أيرلندا وإسبانيا والنرويج وسلوفينيا وأرمينيا اعترافها الرسمي بدولة فلسطين تبعتها دول أخرى في الكاريبي وأمريكا اللاتينية لكن اللحظة الأبرز جاءت في سبتمبر 2025 عندما أعلنت دول وازنة كالمملكة المتحدة كندا أستراليا فرنسا والبرتغال اعترافها بدولة فلسطين لتكتمل بذلك صورة جديدة للعلاقات الدولية هذه الموجة من الاعترافات حملت دلالات عميقة تآكل الهيمنة الإسرائيلية على الموقف الغربي انتصار الدبلوماسية الفلسطينية التي لم تتوقف عن الحشد وكسب الحلفاء تحوّل المزاج الدولي بعد تصاعد الجرائم الإسرائيلية في غزة والضفة ما دفع الرأي العام العالمي إلى الضغط على حكوماته لاتخاذ موقف واضح توسيع الشرعية الدولية لفلسطين لتشمل قوى كبرى طالما تهربت من الاعتراف وهو ما يعزز موقع فلسطين في أي مفاوضات مستقبلية.

التحديات أمام الاعتراف الكامل رغم هذه الانتصارات الدبلوماسية لا يزال الطريق أمام فلسطين طويلاً فما زالت الولايات المتحدة ألمانيا إيطاليا اليابان وكوريا الجنوبية ترفض الاعتراف الرسمي تحت ذرائع التفاوض المباشر وحل الدولتين عبر التوافق كما أن إسرائيل التي ترفض أصلاً وجود دولة فلسطينية تمارس كل أشكال الضغوط السياسية والعسكرية لإفشال هذا المسار التحدي الأكبر يتمثل في ترجمة الاعتراف السياسي إلى سيادة عملية على الأرض فما جدوى الاعترافات إذا ظل الاحتلال يسيطر على القدس ويضم الضفة بالمستوطنات ويحاصر غزة؟ من هنا تبرز أهمية الجمع بين النضال الشعبي والكفاح الدبلوماسي بحيث يشكل الاعتراف الدولي أداة ضغط حقيقية لتفكيك منظومة الاحتلال.

استكمال الشرعية الوطنية إن الاعترافات الدولية بفلسطين ليست مجرد وثائق دبلوماسية بل هي تعبير عن إرادة الشعوب والأمم في الوقوف إلى جانب الحق الفلسطيني ومع ذلك تبقى الشرعية الوطنية هي الأساس إذ لا يمكن لأي اعتراف خارجي أن يعوض غياب الوحدة الوطنية الفلسطينية. فالمطلوب اليوم هو إنهاء الانقسام وتوحيد الصفوف وبناء مؤسسات قوية قادرة على استثمار هذه الاعترافات وتحويلها إلى إنجازات ملموسة فالدولة الفلسطينية لن تُمنح من الخارج بل ستولد من رحم صمود شعبها وإصراره على الحرية الاعتراف الدولي يفتح الأبواب لكنه لا يبني الدولة وحده الفعل الفلسطيني على الأرض هو الذي يرسخ الاستقلال ويثبت الوجود.

لقد كان مسار الاعتراف الدولي بفلسطين طويلاً وشاقاً لكنه في الوقت ذاته مثّل ملحمة من الصبر والإصرار من إعلان الاستقلال في الجزائر عام 1988 مروراً بالاعتراف الأممي عام 2012 وصولاً إلى موجة الاعترافات التاريخية في 2024 – 2025 أثبت الشعب الفلسطيني أنه قادر على تحويل مأساته إلى قضية عالمية وأنه يمتلك من الشرعية ما يكفي ليقف بين الأمم مرفوع الرأس إن فلسطين اليوم أقرب من أي وقت مضى إلى انتزاع مكانتها كدولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة والاعترافات المتتالية ليست سوى شهادة دولية على عدالة قضيتها ورسالة واضحة بأن الاحتلال إلى زوال فكما قال الشهيد ياسر عرفات يوماً سيرفع شبل من أشبالنا أو زهرة من زهراتنا علم فلسطين فوق مآذن القدس وكنائسها فإن الاعترافات الدولية المتعاقبة إنما هي خطوة على طريق طويل لكنه حتماً يقود إلى الحرية والاستقلال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى