رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :غطرسة الذليل

ــــ إن الانسان المُذَل من آخر الذي جعل منه حيواناً، لا يستطيع قطع الطريق عائداً إلى ما قبل الإذلال؟”* كريستا فولف روائية ألمانية.
أحيانا يكون البعض كرماء مع من يكرهونهم ويحتقرونهم وبخلاء في كل شيء مع من يحبونهم ويحترمونهم.
قد يكون محمود درويش أجاب على هذا التناقض المحير:
” أن نكون ودودين مع من يكرهوننا، وقساة مع من يحبوننا، تلك هي دونية المتعالي وغطرسة الوضيع”.
كان العرب الحكماء القدماء يقولون:
” إياك ومؤانسة الذليل”، لانه رضع الاحتقار ولأن احترام الذليل الذي لا يتوقعه كهبوط ثروة على شحاذ، يصاب بصدمة عنيفة تفقده توازنه،
ويقفز للتعويض عن ذل معتق على من لاطفه وآنسه كما لو انك سحقت كلباً في الظلام أو وقعت في حفرة نجاسة. الوضيع يحاول اختزال الاخرين بصفاته هو السيئة لكي يتوازن ويتحكم ويبرر سقوطه لكنها حيلة مؤقته لأن ذاته الملغية ستخبره في لحظة غير متوقعة ان هذا خداع للنفس.
لا تمازح الذليل ولا تبادله الاسرار والمشاعر لانه منحرف في نظرته لنفسه وللاخرين ويترجم كل حدث او كلام او عبارة بطريقة مقلوبة ومشوهة من خلال مصفاة ونظارات” ذات” محطمة ومغبرة ترى الحديقة المشرقة معتمة. هو يترجم ما تقول لا كما هو بل كما يفهمه.
لانه فقد القدرة تماما على التمييز بين الحياة الحقيقية والحياة المزيفة حسب مارتن هايدغر الفيلسوف الالماني.
لطالما تساءلت من اين تاتي مشاعر العظمة لشخصيات ضحلة وتافهة وسطحية؟
مرة أرسلت لي دكتورة في الأدب الانجليزي كما تدعي ــــــــــــ تعترف انها حشاشة وكحولية من باب الحداثة ــــــــــ فصولاً روائية للقراءة والتقييم ودهشت من الركاكة اللغوية ومن السطحية والشعاراتية كما لو انها خواطر انشائية من طالبة مدرسة ، لا تتناسب مع غطرستها وشراستها في صفحتها حتى خجلت وترددت شهورا أبحث عن عبارات مناسبة ولم أجد غير قول الحقيقة وكان رد الفعل هجوما شرساً سوقياً ولا يعرف هذا الصنف ان عندي حصانة ومناعة من القطيع.
علمت فيما بعد انها حاولت مع الروائي المصري يوسف زيدان مؤلف” عزازيل” بلغتها المبتذلة لكنه حظرها حالاً وحاولت مع غيره والنتيجة نفسها.
لماذا يتغطرس الدوني؟رغم كل محاولات الفهم فشلت في العثور على جواب مقنع، ومع البحث توضح لي أن هذا السؤال نفسه أرق علماء النفس
منذ عشرات السنوات: كيف للدوني والوضيع أن يتغطرس والعالم يتواضع؟
جواب العلماء أخيراً حلّ هذا اللغز كالتالي:
ان مشاعر العظمة والتظاهر بالثقة بالنفس والتفاخر نابعة من ذات وهمية زائفة لأسباب كثيرة، ومن عقل منحرف واستعراضي، وهو من يصدّر للفرد هذه المشاعر الزائفة، يخلق لنفسه صورة ذاتية مضخمة مكبرة ويتعايش معها كحقيقة نهائية،
في حين أن الذات” المدفونة” الملغية الطبيعية تشعره في ومضات ان حقيقته ليست في القناع والواجهة وقدراته الحقيقية ليست كما يعتقد ويتظاهر.
مشاعر العظمة والغطرسة من قناع وأنا مزيفة، لكن مشاعر الدونية والاحتقار الذاتي من أنا مدفونة، الأولى تلبي حاجاته للتغطرس واللذة والتمثيل بأخس الطرق،
والثانية تنغص عليه حياته، ومن هنا الصراع المستنزف الذي يظهر في الكآبة والدونية الذاتية الخفية والاحتقار الذاتي وتشكيلة هائلة من الاعراض النفسية الخفية والبحث المهلك عن من يشبع حاجة العظمة والقيمة والاطراء والمكانة المفقودة وملء ذات فارغة هي ثقب أسود لذلك يكون المصاب في حالة استعراض دائم لاثبات ما لا يثبت.
انه في رحلة قنص من اليقظة حتى النوم بحثا عن الاطراء والمديح والمكانة مع ان المكانة تنبع من قدرات الفرد نفسه لا من الخارج ومن حياته الداخلية غناً أو شحوباً، جمالاً أم قبحاً.
يقول علماء نفس كبار بعد حل الشفرة الغامضة بين العظمة الاستعراضية والدونية الخفية إن هذا السلوك المتناقض ـــــــــ التنافر المعرفي بين الفعل والتفكير والواقع والخيال ــــــــــ تعويضي لمشاعر النقص والفشل الحقيقي والاحباط والحقد والكراهية والغل التي تخلقها عوامل مختلفة حسب الافراد، أي الخداع الذاتي لكنه مؤقت وعابر،
لكن هذه الشخصيات توصف بالسامة والمتلاعبة وتمارس الكذب القهري
حتى لو كان الصدق يوفر لها مزايا افضل، فهي ” محكومة” بالكذب والطرق الالتفافية.
حسب الوصف الطبي إن هؤلاء لم يتركوا للشيطان ما يفعله، وحياتهم اليومية رحلة صيد وقنص لمخلوق مفترس، بعد اختراع شخصية نقيضة من الذات المزيفة، على حساب الذات الملغية، وهذا الصنف بدل البحث عن ذاته المفقودة يعمل على تخريب ذوات الاخرين ويستنزف حياته في أفعال مدمرة تحوله الى أنقاض متنقلة.
أقذر عمل لهذا الصنف اختيار أجمل الصفات والقيم والمبادئ كقناع،
والظهور بواجهة جذابة لكنه نسيج العنكبوت لكن هذه الاقنعة تتهاوى بسرعة من أي وخز دبوس .
عالم النفس الفرنسي بيير داكو يقول إن هذا الصنف تشكيلة واسعة من السيكوباث والنرجسيين الخفييين المخلوقات الأخطر في الحياة وهم في كل المهن حتى بين أطباء ومحامين وساسة زعماء وقادة وعامة الناس وبين كتاب ، ومما يجعل اكتشافهم صعباً حتى من وسط عائلي قريب هو قدرة التخفي والدفاع المستميت وطرح الذات كضحية والتلاعب بمشاعر الاخرين على انهم هم السبب،
مما يخلق الحيرة والاضطراب والارتباك لدى هؤلاء الضحايا، الذين لاسباب كثيرة خاصة كالحياة المشتركة والاطفال يضطرون للتعايش مع مخلوق شيطاني في فترات هدنة مؤقته،
لأن العيش مع هذا الصنف هو مشي في حقل الغام ولا تعرف متى ينفجر
بعد صمت طويل كان خلاله ينسج مصيدة لاتفه الاسباب ، ويطبخ وجبة سامة بعقل بارد تشعره بالقيمة والمكانة واللذة.
هؤلاء لا علاج لهم أبداً لانه اختلال بنيوي في الذات الاصلية كشجرة معوجة، ولا يعده العلماء مرضا نفسيا كي يعالج بل هو انحطاط في الشخصية وأي اعادة بناء يهدمها لأنها كعمارة ترتكز على عمود أعوج لذلك يكتفي الاطباء بعلاجات مخففة دون الحفر العميق في ماضي بالوعة عفنة.
كيف تقنع عبقرياً زائفاً إنه منحرف؟ كيف كما يقول التعبير العامي الجنوبي تحل ” طلابة أغبر” مشكلة مع أحمق ليس عنده ما يخسره وطلابة الأغير تافهة ولا تنتهي لأنها أعيت من يداويها؟
على العكس من هذا النموذج هناك الشخصية الانبساطية الهادئة الطبيعية
التي تتكلم وتفعل الشيء نفسه، لان الجمال الداخلي ينعكس على الوجه كطيف هادئ مطمئن حتى تشعر بالسكينة حتى لو كان خصماً،
وتقبل على الآخرين بعفوية ترتقي ان تكون جمالاً،
لان اللطف جمال دائم، ولا تعرف التخطيط والمكر وفكرتها عن نفسها دقيقة بلا عجرفة، والسبب لأنها تتواصل مع ذات طبيعية،
في حين الذات المشوهة عاجزة كلياً عن الدخول في علاقة مع الاخرين لانها عاجزة عن الدخول في علاقة طبيعية مع ذاتها ولا يمكن ان تحب وتحترم احداً لأنها تكره نفسها وتحتقرها كسر داخلي مغطى بالاستعراض والتمسرح.
هل يرى هذا الصنف صورته الحقيقة النفسية؟كيف يمكن رؤية الذات بمرايا مهشمة؟
كيف يمكن ان تقيم علاقة سوية مع الاخرين اذا كانت علاقتها مع ذاتها الطبيعية ملغية؟
إنهم حولنا وخلف الباب تقول عالمة أعصاب وتشريح الدماغ باربرا أوكلي في كتابها” جينات الشرEvil Genes . Barbara Oakley “،
تقول: إن هؤلاء الأشرار يحتاجون الى قطع مرحلة تطورية طويلة للوصول
الى مستوى الحيوانات وليس البشر، لان الحيوان يمتلك مشاعر تضامن ونجدة وحساً حقوقياً، ولا يعرف التلذذ في التعذيب والاستغلال،
وهي صفات تتوفر بإفراط في عديمي الضمائر وهو ما يؤكده العالم الكندي المرجعي روبرت هيرس في كتابه؛
” بلا ضميرRobert D. Hare’s “Without Conscience ” من خلال تجارب حياة مهنية مختبرية وكشوفات بالاشعة الضوئية للمخ وتشريح الدماغ ،
بل تقول بربارة اكتشفت في محيطي القريب بعضهم لمتانة الاقنعة وتبني قضايا كبيرة للخداع.
أمر محير ان يختار هذا الصنف النذالة كحل لمأزق ولو وضعته في بيئة نظيفة وعلاقات سوية طبيعية لشعر بالنفور وهرب الى بيئة مناسبة كوضع خنزير في حديقة زهور فيحولها الى مستنقع،
لأن كل موهبة هذا الصنف التافه هو العثور على تافه مثله بسرعة لتبادل المدائح الكاذبة لتوازن عابر لمحرقة نفسية لا تنطفيء.
هؤلاء لهم معاييرهم الخاصة المنحرفة خارج معايير الطبيعة والبشر الأسوياء كتجمعات الكحول والمخدرات والنصابين واللصوص والمشردين والزوجات الخائنات والازواج والانتهازيين ومن على صورهم من مخلوقات القاع الأسفل،
ومن العبث الحوار معهم بمعايير وقواعد سوية رصينة،
لأنهم عضوياً ونفسياً واخلاقياً يفتقرون للعاطفة والاحاسيس النظيفة والضمير الحي، وحياتهم محاكاة للآخرين في دور تمثيلي مستنزف لا ينتهي،
وهم أتعس المخلوقات رغم الاستعراض التعويضي الخارجي
للتغطية على جحيم الداخل والتمويه على نار مستعرة بل كتمثيل ويكثر هؤلاء في مجتمعات مغلقة تتحاشى النقاش حول هذه العاهات أو حتى تلجأ للتفسيرات الأخلاقية السطحية وهم في كل المهن لكن تحت أقنعة الشر الخفي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى