كتاب وشعراء

قراءة في المجموعة الشعرية (زيتونة شرقية) للشاعرة وحيدة الدلالي….بقلم عرجون محمد الهادي

عندما أخذت في رحلة القراءة وأنا أستحث حركة اللسان تارة وأبطئها تارة أخرى عبر قصائد تأخذني وترحل بي في عوالم الشاعرة وقصائدها، لتتقاطع مع أمكنة وأزمنة مختلفة لتحرك سواكن القارئ فينا وتثير وجدانه. شاعرة تربت على الكلمات التي تطوعها كيفما شاءت فتخضعها لحدود قصائد العمود والعروض تارة وإلى روح قصيدة التفعيلة التي تسكب عطرها من حين لآخر فتزين بإيقاعاتها وتنير بنور حروفها مجموعتها الشعرية (زيتونة شرقية) بالإضافة إلى نصوص نثرية ذات مضامين متعددة متشابهة وغير متشابهة تفر من زمن إلى زمن و من مكان إلى مكان تطلق صيحة الشعر لتحط بشدو كلماتها في أكثر من بلد وأكثر من زاوية لا يخضعها المكان ولا يقيدها، تناصر بشغفها الشعري الحق والعدل والحرية.
حيث نلاحظ من خلال نصوص المجموعة أن الشاعرة تميل إلى الشعر الوجداني والعاطفي والانساني المتأصل في بنية الروح المملوء بالشجن والحزن والقلق الانساني تجاه قضايا الانسانية والذي تميزت به أغلب قصائد المجموعة والتي جاءت مفعمة بلحظات الألم والأمل، ألم الموت والحياة، ألم الحب والحيرة، وأمل النصر والتمكن أمل الحرية والانعتاق.
ففي البداية لا بد من أن أشير إلى أن الشاعرة من خلال مجموعتها (يعانقها الضياء) التي تناولتها بالدرس منذ سنوات أن الشاعرة قد اجتهدت عبر قصائدها للوقوف على بوابة الشعر والكتابة، فالشاعرة تبحث عن إرادة الكتابة من خلال معانقة الضياء ومعانقة القصيدة، من خلال قول الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي حين يقول في قصيدة إرادة الحياة:
وَمَنْ لَمْ يُعَانِقْهُ شَوْقُ الْحَيَـاةِ        تَبَخَّـرَ في جَوِّهَـا وَانْدَثَـر
سَكِرْتُ بِهَا مِنْ ضِياءِ النُّجُومِ     وَغَنَّيْتُ لِلْحُزْنِ حَتَّى سَكِـر
ولكنها بعد صدور مجموعتها الشعرية (زيتونة شرقية) لم تعد تعانق الضياء لتستجدي الحرف فحسب، بل صارت تنير بكلماتها ظلمة المقهورين والمضطهدين في هذا العالم، تنسج بكلماتها وشاحا من نور لترتفع الكلمات وتدثر قميص السلام، وقد أومضت في القلب نجمة، حين أسرجت خيول الكلمات بخيالها وأرست سفن الشعر في غفلة من حزن القصائد، لتعبر عن الانسان البسيط الناشد للتحرر الرافض للموجود المتحجر والثابت.
لنلاحظ من خلال هذه النصوص مكابدة الشاعرة من أجل الحرف والكلمة والكتابة الشعرية لتعزف بحروفها وكلماتها أغنيات لا تنتهي نداءاتها، ودهشة حزينة تطل من بين الاسطر لعزف شجن الحياة بنصوص تميل إلى القصر والاختزال، لذلك نراها تبرز بنيتها الشكلية بصورة واضحة تتسع فيها مساحة الدلالات.
ليكون الوضوح، سمة من سمات نصوصها وبهذا تساعد القارئ على فهم ما ترمي إليه الشاعرة من مواقف تعكس نفسيتها وعواطفها الكامنة التي تظهر من حين لآخر لتوقظ فينا روح الشعر ولذته لتمنح شاعرتنا الأشياء وجودها وصخبها وثورتها على الموجود، نصوص مفعمة بلحظات القبح والجمال، الحرب والسلام، الألم والأمل، ألم الموت والحياة.
فالشعر عند الشاعرة وحيدة الدلالي هو نتاج للمشاعر والأحاسيس والعواطف الكامنة في نصوص بدت صريحة تارة وخفية تارة أخرى تقودنا إليها موسيقى الشجن والفرح التي تقربها للقارىء في كل مكان من هذا الوطن العربي ابتغاء الوصول بمحتوياتها الشعرية وإخراجها في أحاسيس لها أجنحة تحملنا من حزن إلى فرح ومن فرح إلى حزن ومن بلد إلى بلد (غزة، بيروت، اليمن، العراق، سوريا،…) أو عن طريق شخصيات أدبية (فروق جويدة، أبو القاسم الشابي، بدر شاكر السياب،…).
فلا تخلو قصائدها من هموم الوطن العربي بكل خيباته والتي من شأنها أن تجعل قارئ المجموعة يشعر بالصدق الذي تريد بثه في القارىء عن طريق العزف على أوتار الروح والوجدان والعواطف.
لتلامس قصائد الشاعرة باتجاهيها جميع أوتار الحب والحياة رغم مسحة الحزن التي طغت لتعزف ألحانها وتكتب نصوصها دون الدخول في المفتعل.
يظهر من خلال هذه المجموعة أن الشاعرة تتفاعل مع ما حولها لتعبر عن مكنونات نفسها تجاه الوطن خصوصا وتجاه العالم العربي بما فيها من تقلبات واضطربات وصراع داخلي. كما أنها تحاول تجاوز هذا الواقع من خلال قدرتها الابداعية على بث خوالج النفس في المتلقي لتثير فيه إحساسا تكتسب فيه القصائد قيمتها الايحائية والرمزية لتكون أشرعة للحب والسلام والحياة رافضة للحروب والدمار الذي تعيشة الانسانية. (نص على الزناد ص102)
“حذار
أن يكون المصيد حمامة
بغصن زيتون
تدثر قميص السلام
……………….
حرام
أن تصوب فوهة الموت
نحو الحياة”
تحاول الشاعرة أن تصل بنصوصها إلى درجات أبعد ومساحات أرحب حينما تتحدث عن أمجاد الأمة التي سلبت إرادتها وانتقلت من حال الى حال، كانت المواجهة والصراع ثم التنديد والاستنكار ليغلب عليها الصمت في هذا الزمن، عندما تتحدث عن غزة، وما يعانيه أطفال هذه البقعة الصامدة من العالم في وجه الظلم.
ترسم الشاعرة بقلمها لوحات من المشاعر الجياشة لتأخذ بمجامع القلوب، حين تحرك تفاصيل الحدث وإبراز ما هو كفيل بتأجيج لهب المشاعر والعواطف. ليكون بمثابة التنفيس الانفعالي الذي يضفي على القصائد الاحساس المرهف، والتعابير الموسيقية العذبة، على الرغم من الحالات النفسية الحزينة بسبب أحداث وحالات وجودية مؤلمة.
باستعمالها حرف “الياء” الذي يدل في مواضع عن الدهشة والانبهار والإعجاب ويدل في مواضع أخرى عن الاستغاثة والنداء للقريب والمتوسط والبعيد.
حيث استعملت الشاعرة اسلوب النداء من خلال إعتمادها على حرف النداء”ياء” المبني على السكون لا محل له من الإعراب ولهذا الحرف عدة استعمالات وخصائص منها: الاستغاثة والنداء للقريب والمتوسط والبعيد. وما أدّتهُ هذه الصُّور مجتمعة من وظيفة تعبيريَّة، إذ عبَّرت عن معاناة الشاعرة النَّفسية، المتمثل في تشخيص الواقع الذي تعيشه الإنسانية من خلال نبض الشاعرة الشعري، والذي يظهر في قولها (ص41):
“يا شجرة الطلح
يا تاريخا في طياتك
وأراض وفياف هي محيطاتك”
وكذلك في قول الشاعرة (ص48):
“يا قرية الضباب والهباء
يا لوحة فريدة الجمال والخضاب
يا ضبابا تهالك تصاعد تمدد
بساطا لقرية اليمن”
كما استعملت “ياء” الدهشة والانبهار والإعجاب، وهي مشاعر متداخلة تلعب دورًا هامًا في الشعر، حيث يمكن للشاعر استخدامها لخلق تأثير جمالي قوي لدى القارئ، لدهشة تعكس حالة من المفاجأة والذهول، بينما الانبهار هو شعور بالتأثير العاطفي العميق، والإعجاب هو تقدير للجمال والابتكار في العمل الفني، والتي تعمل معًا لخلق تأثير جمالي قوي في الشعر والتي لا تعبر عن معنى محدد في اللغة العربية، بل هي مزيج بين كلمتين: 
– ياء: حرف ياء هو حرف من حروف الهجاء العربية.
– الانبهار: هو حالة من الإعجاب الشديد والدهشة والتأثر العميق بسبب شيء ما.
– الإعجاب: هو رد فعل طبيعي على شيء ما يثير الإعجاب.
مما يثير في المتلقي الدهشة وهو ما يعكس حالة الشاعرة أثناء كتابة نصوصها و التي أرى أنها كتبت في نفس الفترة لما فيها من معجم متكامل و متجانس، حيث نلاحظ ذلك في عدة مواضع منها(ص65):
“يالصوته الشجي
يا لسحر الذبذبات
وإشراق النور ببسمة المرآة
يا لتسنيم من فيه ينهمر
يا للشوق من حرفه”
كما يظهر استخدام الشاعرة اسلوب الاستفهام، وهو أحد أساليب الانشاء الطلبي، يهدف من خلاله المتكلم إلى تصور ما يحدث ليخرج إلى حقيقة مختلفة لها مقاصد شتى، فالاستفهام لا يبحث عن إجابة محددة بل أبعد من ذلك. والاستفهام أسلوب بلاغي شائع في الشعر العربي، ويستخدم لإضفاء قيمة جمالية على النص الشعري وتعزيز معناه. يمثل الاستفهام وسيلة للتعبير عن مختلف المشاعر والعواطف، مثل التساؤل الحقيقي، التوبيخ، التعجب، الإنكار، التقرير، التمني، والاستبعاد، والتسوية. 
وهو ما يجعل قصائد الشاعرة وحيدة الدلالي قد شحنت بجملة من التساؤلات، فكلها مكتظة بالأسئلة المتنوعة ما بين أسئلة فلسفية ووجودية، رمزية وذاتية (هل، من)وغيرها من الأسئلة التي تدل على المكان (أين، أي) والزمان (متى) والحال (كيف)، تتمنى أن تجد لها جوابا مقنعا، ولكنها لاتجد جوابا.  حيث تقول الشاعرة (ص32):
“كيف ستهدئين؟
إلى أي الأقبية ستلجئين؟
في أي النايات تنامين؟
وكيف نغفو وتهجعين؟ ”
وبذلك تسرد الشاعرة أخطاء الانسانية، من حروب و دمار و تقتيل وتجويع وانتهاك للجسد الانساني، وهي بذلك تعيد إنتاج الاسئلة، على الرغم من القلق الوجودي الذي تعيشه، حين ترمم الذاكرة وترتق بسلسبيل كلماتها وشاح السلام وتزرغ أمل الخلاص.
كما في قولها (ص49):
“يا قرية الضباب والهباء
يا قرية السلام
عانقي ببهجة برفعة سماء”
هكذا تزهر نصوص وحيدة الدلالي لتعانق حروفها سماء القصيد لتتخذ من القصائد شكل صرخة مدوية تنفث من حولها رذاذ الوجع الدامي، ولكنها تستدرجك لتكسر أبعاد الزمان والمكان في النص، عندما يسكنها الشعر لتفضح تكلمه وتألمه، فتولد من رحم المعاني القصيدة التي تريد الشاعرة اصطياد فكرتها.
كما يمكننا القول في النهاية بأن الهم الإنساني من أهم أولويات الشاعرة ، حين تعبر عن الألم والوجع المسيطر على مشاعرها، تلك المشاعر التي لم تكن فردية ذاتية بقدر ماهي انعكاس لما يمر به الانسان والانسانية، فهي تعكس لنا حالة واقعية تجسدها من حين لآخر في طيات النص. فشعرها قد أفرز لنا جملة من العواطف الكامنة تقودنا إليها موسيقى الشجن والفرح لتحملنا على أجنحة المعنى، لتجعل قارئ المجموعة يشعر بالصدق عن طريق العزف على أوتار الروح والوجدان.
وفي الختام فالشاعرة وحيدة الدلالي لا تخلو قصائدها من الغنائية من خلال عزفها أوتار الروح والوجدان والعواطف التي جمعتها في صفحات نرتوي منها شعرا سائغا للدارسين. وبذلك تلامس الشاعرة قصائدها جميع أوتار الحب والحياة رغم مسحة الحزن التي طغت لتعزف ألحانها و تكتب نصوصها بحرفية وتمكن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى