حمزه الحسن يكتب :قوة الوهم

ــــ لست خائفة من الضياع. الجميع يفقدون طريقهم أحياناً . إنه الخوف من عدم إيجاد ذاتي أبداً * الشاعرة سيلفيا بلاث.
تم ايهام الثور الفرنسي أستون من الصغر على أنه حصان وصارت السيدة سابين تتنزه فوقه في الحقول وفي الشوارع وصارت شهرته اكبر من شهرة سارتر وكامو وفلوبير .
قصة هذا الثور ليست مسلية بل تحتاج الى التأمل وصحيح أن اسمه أستون لكن عندنا أسماء ونسخ ونماذج مختلفة في السياسة والادب والجامعة وحتى في الغرام لكن خضعوا للبرمجة مثله وكما ان أستون نسي أنه ثور وصدق أنه حصان،
نسي أشباهه عندنا من هم وصدقوا أنهم صاروا خيولاً كقط ينظر في المرأة ويرى نفسه أسداً أو كفأر محاصر في قفص يتخيل نفسه فهداً لكنه لا ينظر في صورته الذاتية الداخلية التي لا يعرفها ولا علاقة له بها ونساها وخلق بدلها نسخة مزورة تصلح لكل الاوقات والاشخاص ،
لكنه يحزن ويغضب ويبحث لو نسي هاتفه او جوربه او محفظة نقوده أو علبة سجائره أو فقدت مكان أحمر الشفاه لكن بلا أية فكرة في البحث عن الذات المفقودة جوهر وجود وحياة وصلة الانسان بالحياة والعالم والكيان كله.
أو واحدة من جنس ثالث بين القرود والتماسيح تضع لها صورة صوفيا لورين أو كلوديا كاردنيالي ــــــ ماتت قبل أيام ــــــــ ومع الوقت تصدق الصورة وتنسى المسخ أو يضع صورة آلن ديلون وهو في الواقع نسخة طبق الأصل من كركدن . الخداع الذاتي تقنية بشرية قديمة من يوم كان الانسان الاول يرسم على الكهوف صورة الأسد لكي يسيطر عليه في الواقع ومن الغريب ان هذه وظيفة الفن والادب حتى اليوم.
اذا كانت مأساة الثور أستون في أن أحداً لم يحفز فيه حقيقته بل شجعوه على الشخصية الجديدة التي تتناقض مع طبيعته وصدقها بالتكرار والايحاء الذاتي، كذلك ثيراننا لم يجدوا المرآة العاكسة لحقيقتهم بل العكس تم تدعيم وتعزيز الشخصية المنتحلة وصدقوها ونسوا من هم،
والنسيان هنا لا يعني عدم التذكر، بل تذكر الصورة المزيفة ونسيان الأصل تماما كالثور أستون لكن مع فارق انه قبل هذا الدور وصدقه ولم يمثل أدواراً أخرى وأقنعة لكل فرد ومناسبة وموقف وظرف.
الثور أستون لم يؤذ أحداً بهذا التحول لكن ثيراننا بعد التحول من صرصار الى مناضل على علب البيبسي ومن جربوع ناقع بالدهن الى صاحب مشروع انقاذ ومن مدمن كحول في غرف الدخان الى مناضل يستحق راتب خدمة نضالية، هؤلاء خربوا البلاد والعباد تحت شعارات ونظريات وهو ما لم يفعله الرفيق أستون.
تم ايهام الثور الفرنسي أستون من الولادة على أنه حصان،
وتغيير هويته الطبيعية بهوية مزورة كما في عالم البشر، وصدق انه حصان كما صدقنا نحن اننا أحرار من الولادة عندما وجدنا هويات جاهزة،
من خلال نظام برمجة وتلقين وتدريب ومكافات وتخويف وعقاب. قواعد ترويض الحيوان نفسها.
في كل صباح تقوم السيدة سابين روا بنزهة على ظهره في الحقول والشوارع واماكن النزهة، وشهرة الثور أستون اليوم في فرنسا تفوق
شهرةكل فلاسفة فرنسا،
ويتابع حساب السيدة في صفحات التواصل الملايين، كما تفوق شهرة المطربة ساجدة عبيد شهرة كلكامش وعلي الوردي والحلاج والخ.
لكن عشاق الثور أستون لا يعرفون أنهم خضعوا للمبادئ نفسها في التلقين
على الأفكار التي تربوا عليها، لأن المؤسسة، السلطة، الأسرة، المدرسة، المنظمات ، الاعلام،
قادرة على أن تفعل بهم كما فعلت السيدة سابين بالثور وتدخل في عقله برنامجاً يتناقض مع طبيعته ودوره بالاغراء والتخويف والتكرار والتلقين ثم يتولى هو الدور تلقائياً بلا اكراه ،
حتى أدمن الدور، كما يدمن البشر، ونسي أنه ثور كما نسي بعضنا انه بشر:
تعال طلع هذا الثور من هذا الوحل.
كيف يمكن اقناع استون انه ثور خاصة اذا كان مخه يابساً وبرمج من الصغر وقد صدق انه عبقري وفلتة زمانه؟ هذا ما نواجهه مع بعض البشر.
جميع عشاق الثور يشيدون بجمال واخلاق وهدوء أستون كما نشيد نحن بكل صامت ومذعور وذاهل وساكت على انه مهذب،
لكنهم نسوا أنهم يشيدون بالجانب المسخ فيه وفقدان هويته الطبيعية،
كما تشيد السلطة، سلطة فرد أم جماعة، بصبر شعوبها على الصمت والصبر والاذلال على انه حكمة وطاقة تحمل بل شجاعة للسبب نفسه: نسيان الهوية وتسليم المصير ولعب الدور المقرر.
هل هناك فرصة لأستون في رفض هوية الحصان والعودة الى هويته الطبيعية كثور؟
ليست هناك فرصة لأنه قطع مسافة طويلة من الطريق وتكونت عنده عادات وتقاليد الهوية المزيفة كحصان كما يحدث لبعض البشر.
من يرى ضخامة وهيبة وشوارب الثور أستون التي تذكرنا بشوارب وضخامة مناضل او زعيم عربي أوهموه هو الآخر أنه حصان،
يعتقد أنه قادر على نطح عمارة وتحويلها الى أنقاض، أو رفع باخرة بقرونه بل وتهديم قارة،
لكن كل هذه الطاقة فيه معطلة بالترويض واختزل مهمته بحمل السيدة سابين ولم يعد يعرف هل هو حصان يحلم أنه ثور أم ثور يحلم انه حصان؟
في كتابها: “أيخمان في القدس: تفاهة الشر” تؤكد حنة آرندت إن أيخمان ليس نازياً بل هو خضع لنظام المؤسسة،
هو فعل ما يجب أن يقوم به بـــ ” دور” نازي في المحرقة بعد أن حلّ النظام محل الضمير وهو لم يفعل ما فعل بدافع عقائدي بل لانه سطحي وتافه وعديم الضمير وضحل وبُرمج على دور ليس عن إيمان بل بالتلقين والمكافأة والتخويف مما جلب هذا الرأي سخط اسرائيل على أرندت مع انها يهودية وسجينة معسكرات الاعتقال النازية،
لأن اسرائيل حاولت تلبيس إيخمان صفة عقائدية بعد اختطافه واعدامه لكن أرندت وجدته تافها وسطحياً، عكس ما نفعل عندما نمنح كل مختل ومريض وتافه صفة عقائدية أو سياسية وتلك مكافأة له لكي يعيث فساداً تحت قناع غير حقيقي وهوية مزيفة.
لم الغرابة من الرفيق أستون؟ أليس فينا من يتصرف مثله وهو أنقاض وهياكل وأشباح وأوهام، بل أدنى من أن يصل الى مستوى أستون الذي يخدم السيدة سابين في نزهاتها الرومانسية؟
ألم توهمنا نظم الحكم أننا شعب نعشق كرة القدم والاغاني ونحب
ونخرج في نزهات وفوقنا عشرات السلط تتنزه في جزر وفيللات وقصور وعواصم وبحيرات في جمهورية أستون الديمقراطية؟