رؤي ومقالات

حمزه الحسن يكتب :من الحب الى الثورة

ـــ الخطأ الشنيع الذي إرتكبه الثوار الذين هاجموا سجن الباستيل في الثورة الفرنسية هو أنهم يفتقرون للحب. * تولستوي.
عبارة تولستوي عًثر عليها في دفاتر يوميات البير كامو التي نشرت بعد وفاته في ثلاثة مجلدات وهي العناوين والملاحظات الاولية لمادته الروائية.
في كتابها “في الثورة” تقول الفيلسوفة الألمانية حنة أرنديت إن أحد أسباب نجاح الثورة الأمريكية هو وجود محكمة عليا مستقلة شكّلت مصدات وقائية للجميع،
وحمت حقوق المختلفين لأن العدالة فوق السلطة وهو الأمر الذي أخفقت فيه الثورة الفرنسية ولم يتح لأرندت الوقت لتشهد فشل وانهيار الثورة البلشفية،
الذي توقعته مبكراً في عهد ستالين حيث العنف الممارس في زمنه لا يختلف عن عنف النازية لأن القصة ليست في الشعارات بل في تحريف قضية الحرية واحتقار البشر والارهاب.
تفرق أرندت بين مختلف المفاهيم كالعصيان والتمرد والتحدي والثورة والتغيير والأزمة العابرة،
لكن عند وقوع أحداث كبرى وغليان، يصبح من العبث البحث عن” مفهوم” يحدد ما يجري لأن الحدث نفسه يسحق كل مفهوم. تقول أيضاً:
” إن مسار التاريخ بدأ من جديد، فجأة، وقصة جديدة تماماً لم ترو من قبل،
ولم تعرف قط، على وشك أن تظهر”.
وبلا ولادة تاريخ مختلف وقصة حياة جديدة على وشك الولادة نكون في الطريق الى مذبحة.
القلوب الغليظة الحاقدة المشبعة بعقلية الثأر والانتقام لا تحقق العدالة والحرية، حتى لو استولت على السلطة، وهذا معنى قول تولستوي عن الثورة الفرنسية:
” الخطأ الشنيع الذي إرتكبه الثوار الذين هاجموا سجن الباستيل
هو أنهم يفتقرون للحب”.
الحب بالمعنى الواسع والعميق المحرر من القسوة والبشاعة،
وبلا حنان ودفء وعواطف حارة وثبات أحاسيس نظيفة، يتحول أعظم الثوار إلى وحوش وطغاة،
يعيدون دورة انتاج القمع بصورة أقذر من جلادهم وعدوهم السابق،
بل يتجاوزونه في الدناءة والخسة كتعويض عن عقدة الشعور بالدونية التي زرعها فيهم.
يمكن تحطيم الاغلال الخارجية ،لكن الأهم تحطيم الاغلال الداخلية،
سقط الباستيل لكن تأسست سلطة المجازر، شارك ستالين في الثورة ومهد لها كحالم،
لكن الحلم والدولة أمران متناقضان بتعبير كامو.
الحلم صفاء وتضحية، والدولة مؤسسات وأعداء ومعتقلات ومناورات. الحلم نقاء والدولة صفقات وتسويات ومساومات.
لكن هل كل عصيان أو تمرد أو غليان هو ثورة؟ تجزم أرندت على القول إن اي تمرد أو عصيان أو حتى ثورة ما لم يكن هدفها التأسيس لتاريخ
مختلف وبداية قصة جديدة مختلفة وهدفه التغيير الجذري والحرية وليس السلطة،
سيكون اعادة تدوير للاستبداد وليس تغييره جذرياً، ليس حتماً، بتعبيرها، تدافع السلطة عن نفسها في ساعات الغليان والتمرد في الشوارع للحفاظ
على السلطة بل قد يكون هدف العنف الذي
تمارسه ضد الجماهير الساخطة هو الخوف من الموت والعقاب وفقدان فكرة بلورتها عن حياة آمنة مستقرة مرفهة على حساب أنين وظلم الناس.
لا يدافع الطغاة في ساعات الخطر والتهديد من أجل التمسك بالسلطة دائماً كسلطة مشروع ،في تلك اللحظات يكون كرههم للسلطة هو المسيطر
على أية مشاعر،
ويقاتلون بوحشية من أجل البقاء فقط . لا تعود القضية قصة صراعات سياسية بل قصة حياة أو موت وقتال غرائزي من أجل البقاء لأن الخاسر لا يذهب الى المنزل بل الى المشانق والقتل أو المحاكم.
لكن هل يجب على المتمردين والثائرين، في العصيان والثورة والتمرد والغليان، أن يكونوا في درجة عالية من التنظيم والتنسيق وأن يعرفوا كل شيء؟
لم يحدث في التاريخ أن الثوار حسبوا لكل شيء حسابه لأن الحدث العاصف نفسه يخلق كل لحظة أشياء جديدة. الحدث صراع مشاعر وارادات متناقضة وتداخل احاسيس وقد ينبثق حدث عابر يقلب الامور.
الحدث المتسارع والقوي والحاد هو انبثاق مستمر وهو يظل في حالة تشكّل وخلق،
وفي تشابك مشاعر الموت والحياة والأمل والخوف،بين عنف السلطة وعنف الناس،والرصاص والحرائق،لا أحد يتكهن ماذا سيحدث وأي شيء سينبثق،
وحتى الذين هاجموا سجن الباستيل في الثورة الفرنسية كان كل توقعهم ليس اسقاط النظام بل تبديله،
لكن الحدث نفسه خلق مفهومه وانبثق بدل العصيان والتمرد مفهوم جديد هو الثورة.
اذا لم تبدأ قصة جديدة مختلفة وتاريخ جديد مختلف، وعندما لا يكون الهدف هو الحرية والتغيير،في أي غليان أو تمرد أو ثورة او عصيان، سوف نعود الى نقطة الصفر سقطت السلطة أم جاءت أخرى.
أخطر من يقف الى جانب السلطة في ساعات الخطر هم “الحياديون واللامبالون”. هذا الجيش الصامت والمختفي والمتفرج والمُنتظر الاحتياطي السري هو أكبر من يمارس العنف غير المرئي ضد الثائرين رغم التنكر بالأقنعة لأنه يفرغ جهاز السلطة لحشر المتمردين في أمكنة محددة بدل تشتيت قواها على أمكنة متعددة.
المحايدون الصامتون هم جيش النظام السري.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى