محمد عبد العاطي يكنب :الجهل بالنيل

تابعت خلال اليومين الماضيين موضوع ارتفاع منسوب مياه نهر النيل عن معدله المعتاد وما تسبب من أضرار لأراضي طرح النهر في مصر ولأراض زراعية واسعة في السودان. ذهبت أقرأ بعض المقالات لأساتذة متخصصين في الري ونهر النيل، وحاولت أن ألخص ما فهمته، فكنت كلما كتبت عبارة أتوقف عندها وأجدني بحاجة إلى إجابة عن استفسار بدا لي. فمثلا إذا قال أحد الأساتذة إن معظم مياه نهر النيل تأتي من النيل الأزرق أجدني على الفور أتساءل: لماذا سمي بالأزرق، ولماذا سمي النيل الآخر بالأبيض، فأبحث وأعرف الجواب ثم أعود لاستكمال قراءة المقالة المتخصصة فأجد الكاتب يأتي على ذكر نهر عطبرة، فأجدني أتساءل: لماذا سمي نهر عطبرة ولم يسم نيل عطبرة كأخويه الأزرق والأبيض؟ فأتوقف وأبحث وأعثر على الجواب.
أقرأ أن معظم مياه نهر النيل تأتي من إثيوبيا، فأبحث عن منابع النهر في إثيوبيا، فأجد نسبة هطول الأمطار الموسمية هناك عالية جدا، فأتوقف قبل أن أكمل أمام كلمة موسمية، وأتساءل: هل المياه القادمة من المصدر الآخر؛ المصدر الاستوائي الإفريقي موسمية هي الأخرى؟ فأكتشف أنها ليست كذلك، وأن هذا هو السبب في ديمومة مياه النيل الأبيض القادم من هناك وأهميته القصوى لمصر رغم أنها لا تمثل سوى ما بين 15 إلى 20 من مجموع حصتنا من مياه النيل، وذلك لأنها كما قلت تنساب طول العام بينما المياه القادمة من المصدر الإثيوبي عبر النيل الأزرق مياه موسمية تتعاظم خلال موسم الأمطار والفيضان من يوليو إلى سبتمبر من كل عام.
ثم أعود لأستكمل القراءة فيذكر الكاتب مثلا بحيرتي فيكتوريا وتانا، فأقرأ عنهما: الموقع والمساحة والارتفاع عن مستوى سطح البحر، وكيف أن الأولى حوالي 1100 متر والثانية (تانا الإثيوبية حوالي 1800 متر) بينما النيل عند حدود أسوان 115 متر وعند القاهرة حوالي 23 متر وعند مصب دمياط ورشيد يقترب من الصفر بالنسبة إلى مستوى سطح الأرض، وأن هذا الارتفاع في دول المنبع والانخفاض في دول المصب هو الذي منح النيل جريانه من الجنوب إلى الشمال.
المهم أنني كلما قرأت فقرة أجد نفسي جاهلها بكلماتها المفتاحية، وأن هذا يستدعي مني العودة إلى الجذور والخلفيات، لأعرف كم حصة مصر التاريخية من مياه نهر النيل، كم استهلاك مصر الفعلي من المياه، وكم العجز بين الوارد والمستهلك. ورجعت إلى مصادر وزارة الري وتصريحات وزير الري، فعلمت على سبيل المثال أن حصة مصر 55.5 مليار متر مكعب سنويا من مياه نهر النيل، وأن ثمة بضعة مليارات أخرى تأتيها من الأمطار والمياه الجوفية ليكون المجمل 59.6 مليار متر مكعب، أي حوالي 60 مليار متر مكعب على سبيل التقريب، بينما استهلاك البلاد من المياه يقارب 80 مليار متر مكعب، ثلاثة أرباع هذه الكمية تذهب للزراعة والربع الباقي للشرب والصناعة وما شابه. وهذا يبين حجم العجز المائي الذي تواجهه مصر حتى في حال حصولها على حصتها القانونية كاملة، وعلمت أنه لولا حصول مصر على بضع مليارات أخرى من حصة السودان التي لا تستهلكها كلها حاليا بسبب الحرب الدائرة لكانت فجوة العجز المائي أكبر.
كما علمت سواء بالقراءة أو بالبحث أن ما حدث في إثيوبيا هو أن كمية هطول الأمطار هناك سواء هذا العام أو العام الماضي أعلى من المتوسط السنوي خلال دورة هطول الأمطار (نعلم أن ثمة سنوات متتالية يكون هطول المطر على الهضبة الاثيوبية جيدا تعقبها دورة مناخية تستمر لعدة سنوات تقل فيها معدلات هطول المطر وقد يحدث جفاف مما يؤثر في هذه الحالة على مصر، وأن المصريين لا يشعروا بذلك في الماضي بسبب بحيرة ناصر التي تخزن 162 مليار متر مكعب، وأنه يمكننا في حالة سنوات قلة المطر الاعتماد على البحيرة لمدة تتراوح بين 5 إلى 7 سنوات، وفي حال الجفاف الشديد جدا الذي يصيب أثيوبيا يمكننا الاعتماد عليها ما بين سنة ونصف إلى سنتين إلى أن ينزل المطر هناك مرة ثانية)..
المهم أن إثيوبيا هذا العام والعام الماضي شهدت هطولا للأمطار بأعلى من المعتاد بنسبة 25% هذا العام وأعلى من ذلك العام الماضي، وأنها استغلت هذا الأمر في ملء سد النهضة، ثم ملأته على الآخر قبيل افتتاحية لكي تأخذ اللقطة التلفزيونية بحسب وصف بيان وزارة الري المصرية الأخير، وأن هذه اللقطة هي التي أحدثت فوضى تصريف المياه وإدارة هذه الكميات الكبيرة المتراكمة خلف السد، وأنها – أي إثيوبيا – اضطرت لفتح بوابات السد ومخارج الطوارئ لتصريف المياه الفائضة حتى لا يتضرر جسم السد، الأمر الذي أحدث تدفقا هائلا وغير معتاد لا في كميته وفي توقيته أصاب السودان بضرر وكاد يدمر سد الروصيرص، فاضطر السودان لفتح هذا السد والطلب من إثيوبيا تقليل المياه المتدفقة لحين تصريف المياه الواصلة إلى الروصيرص، وهو ما حدث، وتم تلافي أضرارا أكبر كان يمكن أن تحدث، ثم وصلت تبعات هذه الفوضى التي أحدثتها إثيوبيا في تشغيلها وإدارتها للنهر – بحسب وصف وزارة الري المصرية- في ارتفاع منسوب مياه نهر النيل.
ومما فهمته – وأرجو أن يصحح لي خبراء الري إن كنت مخطئا – أن زيادة كمية مياه نهر النيل العام الماضي وهذا العام قد استفادت منها مصر بملء بحيرة ناصر، ثم ما زاد عن بحيرة ناصر فتحت القنوات الموصلة إلى منخفضات توشكي، وهي منخفضات أربع تشبه البحيرات في الصحراء جنوب غرب بحيرة ناصر، حتى امتلأت تلك المنخفضات. ثم ما زاد عن ذلك أدى إلى ارتفاع منسوب مياه النيل الذي نشاهده الآن خاصة في الدلتا.
ومن ضمن ما قرأت أيضا أن منخفضات توشكي رغم أهميته فإنه وبسبب الظروف المناخية الحارة وطبيعة التربة الرملية فإن الاستفادة من المياه الواصلة في بعض السنوات إليها لا تكون كبيرة، لأن نسبة منها تتراوح بين 6 إلى 12 مليار متر مكعب بحسب الدراسات تتبخر، وكمية أخرى تتسرب في الرمال. كما قرأت أن محاولات المحافظة على تلك المياه من البخر أو من التسرب تتكلف أموالا كبيرة جدا لدرجة تجعل متخذ القرار يفكر في الجدوى الاقتصادية لمثل هذه المشاريع.
المهم…
الهدف من هذه الخاطرة التي أطلت بها عليكم أن أوضح أن واحدا مثلي يهتم بالقراءة والكتابة جاهل أشد الجهل بموضوع مهم وخطير ووجودي مثل نهر النيل وتوزيع مياه والتحديات التي تكتنفه. لدرجة أن دولا حيوية في حوض النيل مثل التي التي تقع بحيرة فيكتوريا على حدودها وهي أوغندا وكينيا وتنزانيا.. هذه الدول أكاد لا أعرف عنها شيئا غير اسمها، رغم – كما قلت – أهميتها الاستراتيجية لنا كمصريين.
فيا ترى ما السبب؟
ما السبب في جهلي وجهل البعض الآخر ممن يشبهني بمثل هذه الموضوعات والمعلومات المهمة للغاية؟
لماذا استغرقتنا موضوعات أقل أهمية فذهبنا ذات اليمين وذات الشمال نقرأ عنها وتركنا ما هو خطير ومصري كهذا الموضوع؟
هل هي المناهج الدراسية؟ هل المناخ الثقافي العام؟ أم ترى السبب هو مزيج من هذا وذاك؟