رؤي ومقالات

يسري فوده يكتب :ترتيب المعارك

سوى المهارة في إقامة التوازن بواقعية بين الممكن واللا ممكن، تبرز أمامي ما أراها أهم نقطة في رد ح-مIس على إملاءات نتنياهو من خلال ترمب• وهذه هي إصرار الحركة على البقاء على الساحة في ظل أي سيناريو يمكن الوصول إليه•
ذلك أن أطراف المسألة كلها – رام الله، العواصم العربية، تل أبيب، واشنطن، أوروبا – ربما تختلف فيما بينها على أمور كثيرة إلا على ضرورة القضاء على حركة الم-قIومة الإس-لامية• تفهم الحركة هذا جيدًا، ولهذا كررت تأكيدها على الوجود والاستمرار بأكثر من صورة في أكثر من موضع من البيان الصادر أمس وما تلاه من تعليقات•
فأما تل أبيب وواشنطن والعواصم الفاعلة في أوروبا فلم يكن لديها تاريخيًا مشكلة مع الإسلام ولا مع المسلمين• مشكلتها فقط مع من يقف على قدمين ويعطلها عن مطامعها، مسلمًا كان أم شيوعيًا أم حتى مسيحيًا أو ي@وديًا•
بل إن التاريخ يرصد لنا أمثلة في منتهى الإثارة والتشويق، من لورنس العرب صديق القبائل العربية المسلمة عدو الخلافة العثمانية المسلمة، ومن المستشرقين المتأسلمين المتمصوفين دعاة السكينة والخنوع، ومن بونابرت حامي حمى “المحمدين” (يعني المسلمين) الذين ثاروا عليه قبيل نهاية عام 1798 فأضاف إلى قاموس الأمن السياسي – ربما لأول مرة في التاريخ – مفهومًا صرنا نعرفه اليوم بعبارة “القلة المندسة” التي يهدف استخدامها “إعلاميًا” إلى عزل الم-قIومة عن احتمال التأثير في مسار الرأي العام السائد•
في هذا السياق، وفقًا لعبد الرحمن الجبرتي، زعم بونابرت أنه “المهدي المنتظر”، وأن نزوله إلى أرض مصر “إنما هو منصوص عليه في القرآن”، وأن “الفرنساوية هم أيضًا مسلمون مخلصون”، وقال في بيان لشعب مصر: “بسم الله الرحمن الرحيم•• نعلمكم أن بعض الناس الضالين العقول، الخالين من المعرفة وإدراك العواقب سابقًا، أوقعوا الفتنة والشرور بين القاطنين في مصر فأهلكهم الله•• إن الله قدّر في الأزل هلاك أعداء الإسلام وتكسير الصُلبان على يديّ، وقدّر في الأزل أني أجيء من المغرب (يعني الغرب) إلى أرض مصر لهلاك الذين ظلموا فيها•• ولا يشك العاقل أن هذا كله بتقدير الله وإرادته وقضائه”•
وأما تل أبيب فقد تلطخت أياديها بدماء الجميع من كل المشارب عبر تاريخها حتى قررت هي نفسها دعم ح-مIس لدى نقطة بعينها لقصم ظهر الصف الفل-سطيني• وأما رام الله فلم يؤد هوانها وفسادها وفقدانها مصداقيتها كل يوم إلا إلى مزيد من الكراهية من جانبها للبديل الذي رفض خدعة أوسلو وبقي في الميدان•
وأما العواصم العربية فإن عقيدتها الأمنية من اليوم الأول تضع الحركات الإسلامية الفاعلة بوجه خاص على قمة مصادر الخطر• في هذا هي محقة بالنظر إلى قرب هذه الحركات من نبض الشارع الذي تنظر إليه الأنظمة دائمًابعين الشك، وفي هذا هي تشترك في الهدف مع أعداء الشارع• فقط بالنسبة للأنظمة العربية هو مجرد صراع على السلطة، وبالنسبة لأعداء الشارع هي عقبة لابد من إزالتها من طريق الوصول إلى المطامع•
رغم ذلك، ظهرت في الأسابيع القليلة الماضية بعض المؤشرات نحو قراءة مختلفة نسبيًا للموقف من جانب بعض العواصم العربية المؤثرة• من أبرزها ظاهرة انفتاح مفاجئة في القاهرة وإن كانت محسوبة ودقيقة الإدارة تهدف، كما يبدو، إلى مغازلة الجبهة الداخلية أمام موقف إقليمي تعقدت الآن تفاصيله ومخاطره وتهديداته حتى صار أشبه بحقل ألغام كل شبر فيه قابل للانفجار في أي لحظة• ومن أبرزه أيضًا كما يبدو تخوفات العواصم العربية جميعًا من آثار الإبIدة الجماعية في غرْة من حيث تأثيرها على حسابات الأمن الداخلي، وفُجر نظام نتنياهو وشركائه المجانين من حيث تأثيره على مستقبل الأنظمة العربية نفسها• حتى أبوظبي – تخيّل أبوظبي – أعربت مؤخرًا عن بعض التحفظات•
لم نكن معهم في الغرف المغلقة أو على الهواتف المؤمنة، لكن بيان ح-مIس يوحي بأن قادتها لم يواجهوا ضغوطًا حاسمة من جانب العواصم العربية المؤثرة قبل إصدار بيان مقاوم من هذا النوع في وجه عنجهية فاجرة واختلال ضخم في موازين القوة المادية•
أفهم جيدًا موقف العواصم العربية من حركات الإسلام السياسي، وأفهم أيضًا مشاعر الكثير منا نحو أي نظام سياسي قائم على الثيولوجيا وحكم الدين• لكني لا أرى مخرجًا حكيمًا في ظل ما يُحاك لنا جميعًا إلا في إعادة ترتيب المعارك• سيكون لديك وقت طويل غدًا لمواجهة من تريد أن تواجهه داخليًا، أما اليوم فربما ينفعك ألا تشارك في هدم يد تعطل من يريد أن ينفرد بك بعد ذلك•

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى