مَائِدَةُ الجَمْرِ…بقلم حيدر البرهان

هَيِّئْ قُبَّعَتَكَ السَّوْدَاءَ، أَيُّهَا الصَّاحِبُ،
هَا هُوَ دَوِيُّ الْقَصْفِ يَعُودُ،
يَمْلأُ الْفَضَاءَ،
لَيْسَ كَصَدِيقٍ غَائِبٍ،
بَلْ كَظِلٍّ عَنِيدٍ يَرْتَحِبُ بِقُدُومِهِ فِي مَسْرَحِ الْمَوْتِ.
فَكُلُّ رَصَاصَةٍ تَسْقُطُ
لَيْسَتْ مَجَرَّدَ مَعْدَنٍ يَخْتَرِقُ الظَّلامَ؛
إِنَّهَا جُرْعَةٌ تَسْقِي التُّرَابَ عَسَلاً أَسْوَدَ مِنْ دِمَاءِ الأَحْيَاءِ،
فَتَنْبُتُ فِي حُشَاشِ الأَرْضِ، فِي أَحْشَائِهَا السِّرِّيَّةِ،
غَابَةً مِنَ الأَطْيَافِ الْغَاضِبَةِ،
تَعْشَبُ وَتَتَفَرَّعُ كَجُذُورِ الأَلَمِ.
لَقَدْ سَقَيْتَ، بِكَفَّيْكَ، الْوَرْدَةَ الَّتِي ذَبُلَتْ قَبْلَ أَوَانِهَا،
وَغَسَّلْتَ، بِصَبْرِ الأَتْقِيَاءِ، غُبَارَ الْحَقِّ وَهُوَ مَغِيبٌ تَحْتَ رِكَامِ الصَّمْتِ.
فَلَمْ تَمُتْ أَنْتَ،
لأَنَّ الْمَوْتَ حَصَاةٌ لا تَزِنُ إِلا فِي كَفِّ مَنِ اسْتَسْلَمَ.
إِذَا الشَّعْبُ الْجَلِيلُ أَبَى،
فَوُجُودُنَا لَيْسَ سِوَى صَدَى يَتَنَقَّلُ فِي صُدُورِ كُلِّ مَنْ غَضِبُوا.
نَحْنُ الْوَمَضَاتُ الَّتِي تَسْكُنُ فِي عُيُونِهِمْ،
وَالْغَضَبُ الَّذِي يَكْتُبُ نَفْسَهُ عَلَى جَبِينِ الأَصِيلِ.
أَتَتَرْجُو بَعْدَنَا أَبْوَاباً سَاجِدَةً،
وَنَحْنُ الَّذِينَ جَعَلْنَا مِنْ أَصَابِعِنَا شَظَايَا،
وَمِنْ أَضْلُعِنَا قَوْساً لِرُمْحِ الْغَضَبِ،
فِي أَصْبَاحِنَا الْمُثْقَلَةِ بِالرَّعْدِ،
فِي عَامٍ مِنْ أَعْوَامِ الثَّوْرَةِ… فِي الْأَوَّلِ مِنْ آذَارَ،
عَامَ 1991.
سَتَبْقَى كَلِمَاتِي نَاراً، طَاهِرَةً لا تَمُوتُ، أَبَدِيَّةَ الاشْتِعَالِ.
وَسَتَظَلُّ مُهْجَتِي سَنَاداً، عَمُوداً مِنْ نُورٍ،
يَسْتَنِدُ إِلَيْهِ كُلُّ مَظْلُومٍ صَامِدٍ، وَكُلُّ مُحْتَسِبٍ يَنْتَظِرُ الْفَجْرَ.
أَنَا لَمْ أُخْطِئِ الْحِسَابَ…
فَالْحِسَابُ كُلُّهُ كَانَ لُعْبَةً فِي يَدِ الْقَدَرِ.
وَمَا خَسِرَتْ إِلا أُمَّةٌ بِأَبْنَائِهَا تَلْعَبُ،
كَمَنْ يَبْنِي قُصُوراً مِنْ رِمَالٍ عَلَى شَاطِئِ الْمَدِّ الْجَارِفِ.
سَأَمْضِي.
لا أَرْجُو غَيْرَ وَجْهِكَ، يَا بِلَادَ الأَنْبِيَاءِ الَّتِي لا تَهْدَأُ،
وَلا تَكُفُّ عَنِ الْغَضَبِ الْمُقَدَّسِ.
فَإِنْ مُتُّ، فَاعْلَمُوا أَنَّنِي بَذْرَةٌ سَتَمُوتُ،
لَيْسَ كَمَنْ يَنْتَهِي، بَلْ كَمَنْ يَغُوصُ فِي الأَعْمَاقِ،
لِيُخْرِجَ مِنْ ضُلُوعِ الأَرْضِ غَابَةً مِنَ الْغَضَبِ،
تَعْصِبُ جُرُوحَ الْوُجُودِ، وَتَنْبُتُ حُرِّيَّةً لا تُقْهَرُ.
فَصَلِّ عَلَى جُنُونِي، يَا صَوَاحِبَ الْهُوَى،
(صويحب من يموت المنجل يداعي)
فَنَحْنُ لَمْ نَعُدْ نَمْلِكُ إِلا هَذَا الْجُنُونَ الْمُسْتَنِيرَ.
وَمَا لِي فِي غَيْرِ أَقْوَامِي، فِي غَيْرِ هَذِهِ الأَرْضِ الْحَاشِدَةِ بِالْجِرَاحِ وَالأَمَلِ، مَذْهَبُ.
وَإِنْ سَأَلُوكَ، يَوْماً، عَنِ الْحُرِّيَّاتِ الضَّائِعَةِ،
فَقُلْ لَهُمْ:
“إِنَّهَا لا تُفْقَدُ، بَلْ تَتَحَوَّلُ.
هِيَ الآنَ فِي قَلْبِ كُلِّ مَظْلُومٍ تَحْتَجِبُ،
كَجَمْرَةٍ تَنْمُو فِي الصَّمْتِ، تَنْتَظِرُ نَافِخَةَ الأَرْوَاحِ،
لِتُولَدَ مِنْ رَمَادِهَا شَمْساً.”







