أدب الذاكرة الوطنية : دراسة مقارنة بين ” البحث عن ظلك” و “حلقة الذكرى “
بقلم الدكتور بكر إسماعيل الكوسوفي

مقدمة
في عالم الشاعر نجات ز. رجا (Nexhat Z. Rexha)، ليست الذاكرة مجرد فعل تذكُّر، بل هي شكل من أشكال الوجود والصمود. سواء في ديوانه الشعري “البحث عن ظلك” ، أو في قصيدته التذكارية “حلقة الذكرى” ، يبني الشاعر أدباً للوعي والذاكرة الوطنية، حيث تصبح الكلمة جسراً بين الحياة والخلود، وبين الفرد والتاريخ.\
في هذه الأعمال، لا تحمل الذاكرة الماضي فحسب، بل تحيي الروح الجماعية، محولةً الألم إلى نور والغياب إلى حضور. “الظل” المبحوث عنه في الديوان هو استعارة الهوية المفقودة، والروح التي تتجول بحثاً عن الذات والآخر، بينما “حلقة الذكرى” هي رمز الرابطة المستمرة بين الأجيال والشعراء والمصائر الألبانية.
ويحوّل رجا الشعر إلى فضاء مقدس، حيث يصبح القول الشعري فعل ذاكرة، صلاة من أجل الحب، واحتجاجاً على النسيان. وبهذه الطريقة، يمنح الأدب الألباني المعاصر بُعداً جديداً – هو الشعر كوسيلة لإحياء الروح الوطنية والروحية، وكوثيقة جمالية للألم والصمود البشري.
تحليل نقدي أدبي للديوان الشعري لنجات ز. رجا “البحث عن ظلك”
1. الشعر كفعل ذاكرة واحتجاج
يمثل الديوان الشعري “البحث عن ظلك” للمؤلف نجات ز. رجا تقاطعاً نادراً بين الحساسية الغنائية والالتزام الفكري. في وقت يكافح فيه الشعر الألباني لإيجاد صوته وسط ضجيج العولمة والنسيان التاريخي، يقدم لنا رجا عملاً حميمياً وجماعياً في آن واحد، متألماً وشجاعاً، صامتاً ومُدوِّياً.
هذا الكتاب هو شهادة شعرية للروح الألبانية، رحلة عبر جراح وآمال الأمة.
2. البنية والمحتوى: دورة شعرية متداخلة
يحتوي الديوان على عدد كبير من القصائد المقسَّمة إلى دورات موضوعية، تتشابك فيها:
• الحب المفقود والمتأخر (“الحِرمان”، “تكنولوجيا حديثة”، “الظمأ”، “نور الحرية”)
• الوطن الجريح والمنسي (“رسالة إلى الوطن”، “تشاميريا”، “في مدينتي”، “في ساحة معركتنا”)
• نقد السلطة والتضليل التاريخي (“العرش”، “حج التضليل”، “مرة واحدة فقط”)
• التأمل الفلسفي في الزمن والوجود (“زمني المُرقع”، “الكتاب في حُلمي”، “يدور”)
هذا التنظيم الموضوعي غير مصرح به في الكتاب، ولكنه يظهر من خلال القراءة المتأنية وتحليل الأبيات.
3. السمات الأسلوبية: شعرية مكثفة ومتعددة الأوجه
أ) الرمزية المشحونة
يستخدم رجا رموزاً قوية مثل “الظل”، “البجعة”، “حصان طروادة”، “الأباطرة”، “النجمة الخماسية”، “نار بروميثيوس” – وهي تحمل شحنات أسطورية، تاريخية، وعاطفية.
ب) المفردات الشعرية الغنية
تخلق كلمات مثل “رَقّ”، “صوان”، “جدار قديم”، “حفر”، “رسم”، “سيمفونية” أجواء ثقافية وفلسفية عميقة.
ج) تداخل الأزمنة
الماضي التاريخي، الحاضر المتألم، والمستقبل غير المؤكد، تتعايش في النص الشعري نفسه، خالقةً زمناً شعرياً دورياً.
د) نبرة رثائية واحتجاجية
القصائد مليئة بالألم، الحنين، وأيضاً الثورة على المظالم التاريخية والسياسية.
4. أمثلة مُحللة من القصائد
• “الحِرمان”
“أتيتِ برائحة / دمع الحب / العيون هزمت السحر / سنهزم الغضب كنت تقولين لي”
هنا يرتبط الحب بالدمع – شعور عميق يتجاوز السحر والوهم، ويواجه الغضب. تبني الأبيات توتراً بين الانتظار وخيبة الأمل، بين الأمل والحرمان – وهو مفهوم يمثل لعنة الزمن والحب المتأخر.
• “في مدينتي”
“نهر مارغا تحوّل إلى ‘كْريفا ريكا’؟! / كم مرة رأيت بعيني / تحليق الطيور هدفاً / للقتل.”
لدينا هنا نقد قوي للاستعمار الثقافي ومحو الهوية. تغيير اسم النهر هو رمز لفقدان الذاكرة التاريخية. وأبيات الطيور هدفاً هي استعارة للعنف ضد الحياة والطبيعة.
5. التأثير الأدبي والثقافي
• في الأدب الألباني: يقدم رجا أسلوباً فريداً يمزج الأسطورة، الفلسفة، والأحداث الجارية، واضعاً نفسه في تقليد الشعراء الملتزمين مثل دين محمدي، عزم شكرلي، وعلي بودريميا.
• في الحياة الفكرية: تحفز القصائد تأملاً عميقاً في الهوية والتاريخ ودور الفرد في المجتمع.
• في الثقافة الوطنية: تُذكَر شخصيات مثل تشاميريا، دردانية، سكندربيك، إسماعيل كمال، آدم ياشاري، ليس كزينة، بل كرمز للمقاومة والذاكرة.
• في الدراسات الأدبية: يقدم الكتاب مادة غنية للدراسات الأسلوبية، السيميائية، الهيرمونيطيقية، والمقارنة.
-في الخطاب السياسي: غالباً ما تكون القصائد مشحونة بالنقد للسلطة، وللتلاعب التاريخي، وللنسيان الجماعي.
6. الخلاصة: الشعر كفعل للذاكرة والأمل
إن كتاب “البحث عن ظلك” هو أكثر من مجرد ديوان شعري – إنه بيان للروح الألبانية، وفعل ذاكرة، وصلاة من أجل الحب، واحتجاج على النسيان. بأسلوبه المميز، وحساسيته العميقة، والتزامه الفكري الواضح، خلق نجات ز. رجا عملاً يستحق الدراسة والترجمة والترويج على المستوى الدولي.
“حلقة الذكرى” – شعر الذاكرة، الألم، والقيامة الشعرية
“حلقة الذكرى”
إلى كريم عريفي
على ضفاف برشوة
تراقب النور باتجاه النهر
لترى سفن الأسماك
كيف تحمل نبات مسقط الرأس
كم من سلاسل جبال كانت تزن
في مسيرتك أيها الشاعر
في أفق الفنيكس
بأحرف الذكريات
ما وراء الصوت قد ربطت
أقداراً منحوتة
في نصب البطل المسموم
الأكاذيب لم تشرب الماء
على مائدة الوفاء
حيث يربط الطريق
الوطن المتقلص
تتحدث عن القمر
المتلاشي خلف الجبال
في العين الزرقاء تصفح
الليالي الأرق
حرية الحياة
لامست اللون
في دفتر الدم
باتجاه طرقات الطفولة
مع ريح الحنين
تطير ما وراء مورافا
في سهل السكك الحديدية
حين كانت صافرة الإنذار تُعلن الرحيل
سخام الاهتزازات، كم مبكرًا
اتخذ لونك
في فجر بريشتينا
أن تكون “محبوسًا في الجرة
ستروغا قرب البحيرة
تحفظ النفس الأخير
في البيت الأقحواني
حلقة دمع تقطر على حافة الطريق
(مارس 2015)
تحليل نقدي أدبي 1. المقدمة :
قصيدة “حلقة الذكرى” للأستاذ نجات ز. رجا ، المكتوبة في مارس 2015 والمُهدَاة إلى كريم عريفي، تمثل أحد التعبيرات الشعرية الأكثر حساسية وتكثيفاً للذاكرة الوطنية الألبانية في الشعر المعاصر. إنها قصيدة تذكارية، وفي الوقت نفسه تأمل فلسفي وجمالي عميق في المصير والتضحية وصمود الإنسان الألباني عبر فضاءات تاريخنا الجريحة.
في هذه القصيدة، لا يبني رجا رثاءً عادياً؛ بل يبني نصباً شعرياً للذاكرة، حيث الكلمات ليست مجرد أبيات تذكارية، بل حجارة للوعي الوطني تتصل بـ “حلقة ذكرى” أبدية. تتحدث القصيدة عن نور الروح الذي يواجه ظلام النسيان، عن التحليق ما وراء الحدود المادية والتاريخية، عن الحرية التي تنبع من دم التضحية، وعن الحنين الذي يصبح جسراً بين الحياة والخلود.
2. البعد الموضوعي والفِكري
في صميم القصيدة تكمن الذاكرة – ليس كعملية حنين، بل كفعل صمود وقيامة. هذه الذاكرة الشعرية ترتبط ارتباطاً وثيقاً بشخصية كريم عريفي، وهو اسم يأخذ في النص بُعداً رمزياً: إنه الشاعر الصامت الذي يحمل ذكرى مسقط رأسه، الذي يراقب “النور باتجاه النهر” ليرى “سفن الأسماك التي تحمل نبات مسقط الرأس”.
في هذا البيت، النهر ليس مجرد فضاء طبيعي، بل هو مجرى للحياة والتجربة التاريخية، حيث تحمل الأسماك “نبات مسقط الرأس”، أي الروح والجذر والأصل. تُبنى القصيدة بأكملها على هذه الاستعارة للحركة بين النور والمجرى، بين المسيرة ووزن الذاكرة.
يمثل البيت “كم من سلاسل جبال كانت تزن في مسيرتك أيها الشاعر” ثقل العبء الوطني على كاهل المبدع – ثقل التاريخ، الألم، والمسؤولية الفكرية. يصبح الشاعر حاملاً للألم الجماعي، وأيضاً فينيقاً للقيامة الروحية (“في أفق الفنيكس”)، في إشارة إلى رمز عالمي للانبعاث من الرماد.
في جوهرها،
وتشتمل القصيدة على فكرة مركزية حول الإنسان الذي لا يستطيع الانفصال عن ذاكرة المكان، ولا عن آلام الآخرين. إنها رثاء لإنسان التفاني، لمن “ربط أقداراً منحوتة في نصب البطل المسموم”، حيث تشير استعارة “البطل المسموم” إلى المصائر المأساوية لأشخاص التضحية والمثال والبراءة المسمومة بالظلم.
3. البنية الشعرية والتصوير الأسلوبي
يبني رجا القصيدة في أبيات حرة، ذات بنية مفتوحة، بدون قوافٍ، ولكن مع موسيقى داخلية تنبع من إيقاع الذاكرة والعاطفة المكبوتة. إنه لا يبحث عن التناغم الصوتي، بل عن اهتزاز الكلمة.في الأبيات:
“الأكاذيب لم تشرب الماء / على مائدة الوفاء / حيث يربط الطريق / الوطن المتقلص”،
يركّز الشاعر صورة أخلاقية وسياسية نقية: مائدة الوفاء، الطريق الذي يربط ويحدد، والوطن المتقلص كاستعارة للألم الجماعي الألباني. تم اختيار كلمة “متقلص” ببراعة، لأنها تحمل في طياتها سوسيولوجيا واقع مجزأ وسيكولوجيا ألم التضييق الهوياتي.
في الجزء الأوسط من القصيدة، تتشابك استعارات القمر، الجبال، العين الزرقاء، ودفاتر الدم بلغة منضبطة، ولكنها مشحونة بتوتر داخلي. يصبح “دفتر الدم” استعارة للذاكرة التاريخية المكتوبة بالتضحية.
بينما “ريح الحنين التي تطير ما وراء مورافا” هي صورة شعرية رائعة للاقتلاع والعودة الروحية.
ويمزج رجا ببراعة بين الرمزية الجغرافية والعاطفية: النهر، مورافا، ستروغا، بريشتينا – كلها محطات للذاكرة الوطنية، حيث تتوقف الأجيال لتتنفس من الألم وتواصل طريق الحرية.
تُختتم القصيدة بصورة شعرية فريدة:
“ستروغا قرب البحيرة / تحفظ النفس الأخير / في البيت الأقحواني / حلقة دمع تقطر على حافة الطريق.” وهنا يحدث الإغلاق الشعري لدورة الحياة: تحوّل الشاعر إلى بيت شعري، إلى أقحوان (زهرة الخلود)، إلى حلقة دمع – أي إلى جزء لا يتجزأ من الذاكرة الإنسانية. الختام هو طقس شعري للخلود، ينقل السكينة والاحترام وحنيناً مقدساً.
4. الذاكرة كجسر بين الحياة والخلود
في هذه القصيدة، الذاكرة ليست بسيطة: إنها فعل، تجربة، واندماج مع مصير الوطن. “حلقة الذكرى” هي قصيدة تبني جسراً بين الحياة والخلود، بين الرحيل والبقاء.
من خلال صورة الشاعر الراحل، يؤكد رجا على قوة الذاكرة الشعرية في مواجهة النسيان. القصيدة لا تقول إن الشاعر يموت، بل إنه “يُغلق في جِرة” ليُحفظ من غبار النسيان. الجرّة، بهذا المعنى، ليست رمزاً للنهاية، بل لحفظ النور، وللبقاء الروحي.
عبر أبيات هذه القصيدة، تمر روح تأملية مماثلة للشعر التذكاري لعلي بودريميا، مع ألم أسعد مكولي الصامت، ومع الدفء الميتافيزيقي لعظيم شكرلي. ومع ذلك، تظل لغة رجا أصيلة، منضبطة، ونبيلة، مشحونة بالتبجيل والتواضع العميق لحياة وعمل أولئك الذين ظلوا “حلقات” للذاكرة الوطنية.
5. التأثير الأدبي، الثقافي، والهوياتي
تتجاوز قصيدة “حلقة الذكرى” حدود قصيدة تذكارية؛ إنها تأمل في مصير الأمة، والحرية، والذاكرة الجماعية. وعلى هذا النحو، فإن لها تأثيراً على عدة مستويات:
•على المستوى الأدبي: تمثل نموذجاً لشعر الذاكرة الذي يمزج الحساسية الجمالية بالتجربة التاريخية.
•على المستوى الثقافي: تحيي القيم المشتركة للتضامن والصمود في الفضاءات الألبانية المقسمة.
•على المستوى الفكري والسياسي: تخاطب وعي الأمة، مذكِّرةً بأن الذاكرة هي الحلقة الوحيدة التي تحافظ على الهوية المشتركة ما وراء الانقسامات الجغرافية.
,وبهذا المعنى، يصبح شعر رجا شهادة شعرية وأخلاقية: دعوة لعدم النسيان، ولإبقاء الروابط الروحية حية بين الأجيال، وللحفاظ على النور ما وراء حدود الزمان والمصير.
في الختام، يمكننا القول إن “حلقة الذكرى” هي قصيدة لا تُقرأ، بل تُعاش. إنها رثاء صامت للشاعر الراحل، ولكنها أيضاً نشيد للحياة، للذاكرة، وللحرية. فيها، تتحول الكلمة الشعرية إلى فعل تذكار ومقاومة، إلى بيت أقحواني لا يذبل أبداً. ينجح نجات ز. رجا ، من خلال هذه القصيدة، في بناء حلقة جديدة بين الأدب والوعي الوطني، بين الكلمة والتضحية، بين الذاكرة والخلود.
في نهاية المطاف، تبقى “حلقة الذكرى” واحدة من أكثر القصائد حساسية وإتقاناً في الأدب التذكاري الألباني المعاصر – بيت شعري يحفظ نَفَس الروح الألبانية ما وراء الزمن، ما وراء الحدود وما وراء الموت.
خاتمة
من الذاكرة إلى الخلود: الشعر كحلقة روحية
يمثل كل من “البحث عن ظلك” و “حلقة الذكرى” قطبين لنفس الشعر – شعر الذاكرة والخلود. فيهما، ينجح نجات ز. رجا في دمج التجربة الشخصية بالمصير الجماعي، والخبرة الحميمية بالتاريخ الوطني. يضع الكلمة الشعرية في خدمة الذاكرة، وأيضاً في خدمة القيامة الروحية، محولاً الشعر إلى فعل أخلاقي-جمالي للبقاء.
من خلال اللغة المنضبطة، والشخصيات الرمزية، والنغمات الرثائية والاحتجاجية، يبني رجا عالماً شعرياً لا يعرف حدوداً زمنية أو جغرافية.
في “البحث عن ظلك”، يبحث الشاعر عن ظل الإنسان، الحب، الوطن – أي ظل الذاكرة. وفي “حلقة الذكرى”، يجده وقد تحوّل إلى نور، إلى حلقة تربط الحياة بالخلود.
وهكذا، يصبح شعر رجا شهادة شعرية للذاكرة الوطنية، دعوة للتأمل في الهوية، التاريخ، والمسؤولية الإنسانية.
في النهاية، ما يتبقى بعد قراءة هذه الأعمال ليس مجرد حنين أو ألم، بل الشعور بالخلود الذي يعيش عبر الكلمات، عبر الظلال التي تضيء، وعبر الحلقات التي تربط الناس والأماكن والأزمنة في سلسلة روحية مشتركة.
——————-
كاتب الدراسة:
——————
السفير والممثل السابق لكوسوفا لدى بعض الدول العربية
عضو مجمع اللغة العربية – مراسل في مصر
عضو اتحاد الكتاب في كوسوفا ومصر
E-mail: [email protected]