رؤي ومقالات

د.فيروز الولي تكتب :دمعة على أطلال الوطن الذي تقاسمه الصارخون

في بلدٍ يُدعى اليمن، حيث الأطفال يتناولون وجبة واحدة في اليوم، والماء والكهرباء صاروا من النوادر، ظهرت ملحمة سوداء لا يُكتب فيها أبطالٌ ولا يقولون إنّهم انتصروا. هنا فسادٌٌ مُستبدّ، وتدخلاتٌ خارجيةٌ متراصةٌ، وشعبٌ بين خيارين مرّين: الخضوع أو الرحيل. قصّةٌ لا تُروى بالورود، بل تُحفر في الوجع، وتلطمها الصرخات.
فسادٌ تشربه الأرض
في هذا الوطن، أصبح الفساد ليس مرضًا عابرًا بل أسلوب حياة. وفقاً لمؤشر مدركات الفساد، إنّ اليمن سجّل 13 من 100 نقطة في عام 2024، محتلاً المرتبة 173 من أصل 180 دولة.
تقرير «الفساد ومحاربته في اليمن» يشير إلى أن الاقتصاد الحربي أوصل النظام إلى “قنوات واسعة لتراكم الثروات غير المشروعة” ما فتح أبوابًا للمفسدين في سياقات الحرب والانهيار.
وبحسب تقرير حديث:
«تكلفة قطاع الكهرباء لوحده في 2022 بلغت 2.27 مليار دولار ووصفها تقرير حكومي بأنها “ثقب أسود يبتلع المال العام نتيجة الفساد”.»
هنا، في أراضٍ يفترض أن تُبنى فيها دولة، تبني الأمم مراكز استثمار، والمغادرون يقفون على أبواب المطار يودّعون أملهم.
تدخلٌ خارجي يستعرض … والشعب يدفع
البلد ليس وحده في محنته. لقد أصبح ساحةً لرهانات دولية وإقليمية، حيث تُستخدم سفينة الوطن ورقةً للخدمة السياسية. ورقة بحثية استعرضت كيف أن تدخل السعودية، الإمارات، إيران، والولايات المتحدة أضاف طبقاتٍ من التعقيد وظلّل بريق الأمل.
وفقًا لـ مركز الأزمات الدولي (CFR) فإنّ أكثر من 21.6 مليون يمني يحتاجون مساعدات إنسانية، منهم 11 مليون طفل.
وإذ تُرى الطائرات الحربية تُحلّق، تُسقط الجراح، يُقتل الحلم، وتُقسّم الجغرافيا إلى مربّعات نفوذٍ ومناطق سيطرةٍ دون حصانة للمدنيين.
في أكتوبر 2025، وبحسب تحقيق من رويترز، يصف الحركة الحوثية في شمال اليمن بأنها «نظام استبداديّ يستثمر المساعدات الإنسانية لصالحه، ويجبر الناس على الولاء مقابل الطعام».
الشعب يشفى من الجوع، لكنه لا يشفي من الخوف.
تماهيٌ ليس حبًّا بل إكراهٌ
أن يعيش الإنسان تحت سيف الخوف هو أن يصبح رشيدًا في أن ينحني، لا في أن يقاوم. كثير من اليمنيين لم يختاروا أن يكونوا دمًّا في مياه الصراعات؛ لكنهم وجدوا أنفسهم في دوّامة: التكيف مع الفساد، أو مواجهة بطشٍ لا يرحم.
الاختيار ليس حرًّا ولا مطلقًا، بل فرضته الحرب، وانحاله القطاع العام، وتفتت الدولة، وسيطرّة ميليشيات، وانعدام الكهرباء والماء.
«التكيّف مع الفساد منذ أربعين سنة» — عبارة منكم ، تعكس أن الفساد تحول لحدّ ملّ منه الشعب، ولم يعد استثناء بل عرفًا متكرّراً.
وفي الأثناء، يعرفون أن القاتل لا يُحاسب، وأن الدية لغيرهم… وأن الثاني لا يُمنح فرصة حقيقية.
دراما الخدمات والانهيار
ليس هناك مجرّد حرب، بل انهيار لكل ما يُسَمّى «خدمات». من ماءٍ نظيفٍ إلى ضوءٍ كهربائي، من مستشفىٍ يعمل إلى مدرسةٍ تحرسها التهديدات.
بحسب منظمة الإنقاذ الدولية، فإنّ أكثر من 19 مليون يمني يحتاجون إلى مساعدات إنسانية في 2025.
أما عن سوء التغذية، فتقول وكالة الإغاثة إن عدد الأطفال دون الخامسة الذين يعانون من سوء تغذية حادّ ارتفع بنسبة 34% مقارنة بالعام السابق، ويُعدّ الوضع “بالغ الخطورة”.
وهنا السؤال: كيف نلوم الجائع الذي هام في الشوارع، أو الصغير الذي درس عن بُعد في فوضى الجنود؟ أن نلومهم هو أن نُعمّق الجُرح.
خاتمة: دمعةٌ على «من يحكمنا»
أقولها بكلامٍ لا يرقّ له الربح ولا الرصانة: إنّ من يحكم يمسك فقط قبضتي الغضب والجشع، لا مفاتيح الإصلاح والعدل.
الشعب اليمني ليس متواطئًا أحبًّا في فسادٍ امتصّ دمَه؛ بل هو مغمورٌ في بحرٍ من الإكراه والخوف.
في كل مدينةٍ تُنهب، وفي كل قريةٍ تُهجّر، وفي كل طفلٍ لا يعرف «لماذا الحزن؟» يكمن السؤال: أيّ دولةٍ نريد؟ وأيّ شعبٍ يُحترم؟
لن تستقيم الأمور حتى تُقال الحقيقة: الفساد لم يكن خللًا عرضيًّا، بل شكلاً من أشكال السلطة. والتدخل الخارجي ليس حلاً، بل ترجمة لحروبٍ تُزرع باسمنا ونُقتل بقرارٍ ليس لنا فيه.
إذا أردنا أن ننهض، يجب أن نُعيد تعريف «التكيف» ليس بوصفه تسوية، بل تحدّيًا. وأن نبدأ من الداخل: نظافة الدولة، احترام المواطن، محاسبة القتلة والمفسدين جميعًا، كيفما كان وسامهم.
ثم نعيد بناء وطن يُسمّى بذلك، لا بذكرياتِ طفولةٍ عابرة، أو بشرى فاتت.
وأخيرًا، لنعرف: الدموع لا تروي الأرض، لكن العدل يفعل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى