عماد خالد رحمة يكتب :مثقفون مستبدّون ودكتاتوريون: روّاد «اليَجِبِيّات» و«اليَنبَغِيّات»

في سياق بحثنا عن المثقّفين وأدوارهم ومهامّهم وأهدافهم، يبرز السؤال التالي:
هل كلّ المثقّفين مستبدّون ودكتاتوريّون ونرجسيّون؟
بالتأكيد لا. فهناك من يؤمن بحرّيّة الرأي والتعبير، ولا يتمسّك بموقفه حتى النهاية، ويملك عقلًا منفتحًا متوهّجًا، إنسانيًّا ووطنيًّا.
لكنّ الكثيرين منهم لا يتّسمون بتلك الصفات «الملائكيّة» التي يطلقونها على أنفسهم ويتغنّون بها؛ إذ تتناقض مواقفهم مع الحقيقة، ومع طوباويّةٍ يصعب تجسيدها على أرض الواقع.
من المؤكّد أنّ كثيرًا من المثقّفين قد لعبوا أدوارًا كبيرة وهامّة في الحياة الثقافيّة والفكريّة والسياسيّة والوطنيّة والقوميّة بشكل إيجابي.
وما أوردته في العنوان يخصّ كثيرًا من المثقّفين والنخب الثقافيّة الذين أدّوا دور المنظّرين أو الأبواق الدعائيّة لأنظمة دكتاتوريّة شموليّة، وفاشيّات عسكريّة، ومافيات حاكمة، وطغاة مستبدّين.
وهنا أقصد النظرة الاستعلائيّة لدى بعض الجماعات من المثقّفين تجاه الجمهور الواسع، وتجاه الشعب الذي يرزح تحت هيمنة السلطات الجائرة، باعتباره كتلةً من الغوغاء والدهماء والهمج، لا عقل لهم ولا حكمة ولا علم.
كما أقصد أيضًا تلك المركزيّة الذاتيّة التي تتّسم بها أفكار وآراء تلك الجماعات ومواقفها إزاء باقي المثقّفين من التيّارات الفكريّة الأخرى، والتي قد يكون لها دور إيجابي في الحياة العامّة.
إنّها نظرة انعزاليّة دوغمائيّة، غارقة في أعماق الأنا الشخصي، ومن ثمّ فهي مناقضة للعقل، وغير ديمقراطيّة على الإطلاق.
في الحقيقة الماثلة أمامنا، نرى أنّ المثقّفين من هذا النوع يصوّرون أنفسهم دعاةً للديمقراطيّة والحوار والدفاع عن الرأي الآخر، ويرفع كثير منهم مقولة الفيلسوف الفرنسي فولتير:
«أختلف معك في الرأي، ولكني مستعد أن أدفع حياتي ثمنًا لحقّك في التعبير عن رأيك.»
أو يردّدون باستمرار العبارة الشهيرة:
«الخلاف في الرأي لا يُفسِد للودّ قضيّة.»
لكن، بعيدًا عن هذه الصورة النمطيّة التي يروّجها المثقّفون عن أنفسهم، وبعيدًا عن الشعارات الممجوجة التي يكرّرونها في كلّ مناسبة، نتساءل:
هل كان الواقع الفعلي للمثقّفين على هذا النحو؟
هل كان المثقّف دائمًا منحازًا لحرّيّة الرأي والتعبير مهما اختلفت مع قناعاته؟
ندرك تمامًا أنّ تهمة الدكتاتوريّة تلاحق المثقّف العربي باستمرار في مجتمعاتنا، وربما يعود ذلك إلى ادّعائه امتلاك الحقيقة الكاملة حين يناقش موضوعًا فكريًّا أو ثقافيًّا أو سياسيًّا أو علميًّا أو اقتصاديًّا.
فهو لا يستمع إلى الآخر بأذنٍ واعية، بل يُغلق أمامه كلّ السبل، ويُصرّ على رأيه، ويمارسُ أعتى حالات الاستكبار والنرجسيّة والتطاوس.
إنّ التجارب التاريخيّة تؤكّد أنّ المثقّفين لم يكونوا، في كلّ الأحوال، مع حرّيّة الرأي والتعبير، بل وقف كثير منهم ضدّ الحوار البنّاء، ولدينا أمثلة كثيرة على ذلك؛
بدءًا من لغة التهميش والإقصاء في الأدب والنقد بين التيّارات المختلفة، مرورًا بمعارك الصراعات التي دارت في هذا الإطار، وليس انتهاءً بالتعاون مع أنظمة فاشيّة ودكتاتوريّة وحكّام طغاة والترويج لأفكارهم.
يضاف إلى ذلك شعور يهيمن على بعض المثقّفين بالاستعلاء والتكبّر على البسطاء، أو ما يُسمّى تخفيفًا بـ«النخبويّة»، أولئك الذين يسكنون الأبراج العاجيّة.
من جهة أخرى، لا يمكننا إغفال دور الأنظمة الحاكمة الظالمة ضدّ المثقّفين؛ ففي الأنظمة الشموليّة يمارس الحكّام الطغاة سطوتهم ضدّ المثقّفين المعارضين، فيكون مصيرهم السجن أو العذاب.
يقول الفيلسوف الألماني الأمريكي هربرت ماركوزه (1898–1979) في كتابه نحو ثورة جديدة:
«موت المثقّف يكمن في تخلّيه عن وظيفته المتمثّلة في تحرير الوعي من الأوهام ورفض الأوضاع السائدة. إنّ مهمّة المثقّف هي صون الحقيقة من الضياع؛ فهو من يرفض التسوية مع الفئات المسيطرة الطاغية.»
ماركوزه، وهو يتحدّث عن دور المثقّف، لم يكن يتخيّل محنة المثقّف في بلداننا العربيّة، التي باتت تُوصَف بالدول الفاشلة أو الهشّة، حيث تكون القوى المسيطرة قوى ما قبل الدولة، وتفرض هيمنتها على الكيان السياسي ذاته.
وهكذا لم تعد محنة المثقّف مقتصرة على مواجهة الحكومات الدكتاتوريّة، بل أصبحت أكثر تعقيدًا في واقع «اللادولة» المرير.
في هذه الأنظمة، تكون عقوبة المثقّف الناقد والمتمرّد واضحة وصريحة:
القتل بتهمة التآمر على الدولة، أو الإخفاء في أقبية السجون المظلمة، أو اختيار المنفى وطنًا آخر.
أما في الأنظمة التي تستمد شرعيتها من قوى اللادولة والفوضى، وتملك تلك القوى السلاح والسلطة في آنٍ واحد، فإنّ الانتقاد الصريح لتلك الازدواجيّة يعرّض صاحبه لمصيرٍ مجهول، يعرفه المثقّفون جميعًا: من التعذيب والسحل إلى القتل والاختفاء القسري.
في الديمقراطيّات الهشّة التي تتحكّم بها قوى اللادولة، يعيش المثقّف محنةً أكثر تعقيدًا من تلك التي يواجهها في الأنظمة الدكتاتوريّة؛ فهناك تكون الخيارات محدودة بين الهروب أو الانعزال أو التبعيّة للسلطة، أمّا هنا فالمأزق مركّب ومتعدّد الوجوه.
ندرك أيضًا أنّ معظم مثقّفينا اليوم ليسوا أيديولوجيّين، وقد تُعَدّ هذه إيجابيّة، لكنها في جانب آخر سلبيّة، لأنّ الكثير منهم فقدوا الالتزام المبدئي، وتحوّلوا إلى ما يمكن تسميته بـ«المثقّف السائل» أو «المثقّف المتسوّل»، الذي يبدّل مواقفه تبعًا لمتطلّبات العرض والطلب من السلطات أو قوى النفوذ.
فبات المثقّف العربي، غير الملتزم بقضايا شعبه ووطنه وأمّته، يرى في التقرّب من السلطة الحاكمة وسيلةً لتعزيز موارده الماليّة أو مكانته الاجتماعيّة أو كليهما.
قد يتّهمنا البعض بالقسوة أو جلد الذات حين نمارس نقد التحوّل في مواقف المثقّف.
لكننا حين نستقرئ منهجه ومسلكه نجد أنه ينتقل من موقف إلى نقيضه تبعًا للمصالح، كما يحدث في كثير من البلدان العربيّة، حيث يسعى بعض المثقّفين إلى الدخول في منظومة السلطة والتحوّل إلى جزءٍ من حاشيتها، لا لمشروعٍ فكري أو ثقافي، بل لإرضاء الغرور الذاتي وتلميع الصورة أمام الجميع، أو لضمان نصيبٍ من مغانم السلطة تحت تبريرات الكفاءة والقدرة.
ورغم ذلك، يرفض هؤلاء النقد، لأنهم يرون أنفسهم «مثقّفين» مهما بلغ تملّقهم للسلطة أو تبعيّتهم لها، سواء كانت هذه السلطة دكتاتوريّة أو ديمقراطيّة زائفة تحكمها المافيات والعصابات السياسيّة.
إنّ تعاون بعض المفكّرين مع النازيّة والأنظمة الدكتاتوريّة أمر معروف.
أما وصف الفيلسوف الفرنسي جان بودريار لأحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 بأنها «حلم تحقّق»، فيحتاج إلى مراجعة شاملة؛ فمهما كان الموقف من سياسات الولايات المتحدة، هل يجوز وصف عملٍ إرهابيٍّ بالحلم؟
إنّ نفي الآخرين وتهميشهم، والأدلجة المفرطة، والتشبّث بالقناعات، ليست حكرًا على المثقّفين اليمينيّين أو المتطرّفين، بل عرفها أيضًا مثقّفون يساريّون رفضوا كلّ من لا يؤمن بأفكارهم.
ونحن كثيرًا ما ننسى أن أكثر الأفكار تطرّفًا في التاريخ كانت ذات خلفيّة ثقافيّة، وأنّها خرجت من عقولٍ يُنظَر إليها كقممٍ في الفكر الإنساني.
وإذا تركنا المواقف المعلنة وانتقلنا إلى اللغة – وهي أداة التأثير الخفيّة التي تتسلّل إلى لاوعي القارئ – سنجد أن قلّةً من المثقّفين تكتب بلغةٍ ديمقراطيّةٍ حواريّةٍ، تختفي فيها تعبيرات الجزم وفرض الرأي.
بينما تهيمن لغة أخرى مفعمة بعبارات الكاتب العليم بكل شيء، العالم بخفايا الأمور، الذي يرى نفسه الأوسع معرفةً وتجربةً.
هنا تبرز فكرة «اليَجِبيّات» و«اللزوميّات» و«اليَنبَغِيّات» التي تُصدم بها عقول كثير من القرّاء غير القادرين على الرد.
فاستخدام كلمات مثل: يجب، ينبغي، من المعروف، لا بدّ، ولازم، هي لغة تُقنع القارئ بأن ما يقوله المثقّف هو الحقيقة الوحيدة ووجهة النظر الصائبة.
وللمفارقة، تنتشر هذه اللغة حتى بين من يصفون أنفسهم بـ«الليبراليّين»، بل يستخدمها كثير من الكتّاب الذين لا يصنَّفون أصلًا كمثقّفين.
يبقى أن مفهوم المثقّف نفسه لا يزال ملتبسًا وغائمًا، خصوصًا في الساحة العربيّة، لأنّ كثيرًا من المثقّفين لا يتركون في كتاباتهم مساحةً للقارئ كي يناقش أفكارهم أو يعترض عليها، حتى بينه وبين نفسه، فكيف مع الآخرين؟!







