حمزه الحسن يكتب :مأزق العقل المُلقّن

ـــــ آين نحن الآن ؟ ـــ في الحضيض.
ـــــ جيد على الأقل لن نسقط مرة أخرى * دوستويفسكي.
الهجنة أو الهوية المركبة هو المفهوم الذي صاغه المفكر الهندي الكبير هومي بابا الاستاذ في جامعة هارفرد الامريكية وخريج جامعة أكسفورد،
في تفكيك الخطاب الاستعماري بعد رحيله لكنه ترك خلفه ثقافة تداخلت مع الثقافة المحلية، وصار الهندي التابع يفكر بعقلية المستعمِر دون وعي منه، لان التفكير يتم من خلال لغة وهي ليست ديكورا بل اداة معرفة.
الببغاء في قفص لا يختلف من حيث الفاعلية عن انسان تابع وكلاهما في حالة سلب الارادة والمصير والاختيار بصرف النظر عن حجم القفص،
لكن هل يفكر التابع؟
التابع لجماعات أو منظومة سياسية جاهزة أو قاموس استعماري تسلل الى اللغة المحلية بالتقطير أو حتى التابع لفرد هو مخلوق ملقن Indoctrination. الملقن سجين، أسير، واقع في عبودية بلا سلاسل من الخارج لكنها من الداخل أقوى من الفولاذ. ينشأ تواطؤ بين الملقن وسلاسله الداخلية على أنها مبادئ لكي يقنع نفسه في نوع من الخداع الذاتي.
التابع شخصية اعتمادية اتكالية انقيادية لا تستطيع أن تقرر بل تحتاج من يقرر لها لأن الجزء الجوهري من مركز القرار مصاب وهو الذات الطبيعية وحلّلت مكانها ذات مزورة تسوغ كل شيء . علاقتها علاقة شيخ بمريد ورفيق بمسؤول وحشود بزعيم.
التابع يصدق كل ما يسمعه أو يقال له بلا فحص أو سؤال لأن منظومة التفكير محطمة ويعيش على الأجوبة الجاهزة لا على طرح الأسئلة لأنهم لقنوه على أنهم يمتلكون كل الأجوبة على كل الأسئلة وهذا اغتيال للعقل على طريقة سنوات السبعينات وندوات الشوارع تحت شعار:” أنت تسأل والحزب يجب” وظهر في النهاية أن الحزب هو الوحيد الذي لم يكن يملك اجابات حقيقية عن أي شيء.
التابع بلا هوية لأنه أسير مفاهيم وقناعات من خارجه ولا من تفكيره ومن سلطة ما أقوى منه وهو في وضع الإستلاب. المستلب مشغول بالنجاة لا بالتفكير السوي. يبحث عن الغفران لا عن الحرية ويريد الولاء لا المعرفة.
التابع مفرغ من العقل لأن مفهوم العقل ليس الدماغ بل المحتوى، واذا كان محشواً بالقوالب وفارغاً يستطيع أي محتال أو مؤسسة أن تخترق تفكيره وتجعله يفكر كما تريد. التابع لا يفكر بل يكرر ويجتر كمطحنة قمح فارغة لا تصدر غير الضجيج.
سؤال المفكرة الأمريكية البنغالية الأصل غياتري سبيفاك: هل يفكر التابع؟
هل الثرثرة والتلقين هو تفكير؟
كيف نفكر بلا ثقافة وبلا انتاج معرفة؟ كيف يمكن لمطحنة قمح فار غة أو معصرة فواكه فارغة أن تنتج غير الضجيج؟
إن” العقل” ليس الدماغ المادة العضوية بل العقل هو” المحتوى الثقافي” وليس كل إجترار تفكيراً.
كتاب دراسات ما بعد الكولونيالية من تأليف ثلاثة مفكرين يتناول خطابات مرحلة ما بعد الاستعمار وهم:
بيل أشكروفيت و جاريث جريفيث هلين تيفين، وهو كتاب تعريف لمفاهيم ما بعد الكولونيالية في اللغة والادب والسياسة والمجتمع والتفكير،
والطريقة الماكرة التي تتداخل فيها المفاهيم الاستعمارية مع الثقافة المحلية بحيث تظهر كمنتوج محلي بل تتداخل مع الفولكلور والفن وتصبح جزءاً من الثقافة المحلية مع الوقت،
في العراق جيش ضخم واسع ممول للترويج أو للتسويق المجاني عن جهل أخطر من الشر الذي يمكن مواجهته.
إن مفاهيم الحرية والعدالة والحداثة والحقيقة والسلطة والسيادة والحقوق والاستقلال، يجري تحريفها بترسانة ضخمة من التبريرات،
كما جرى تحريف وتشويه شعارات الاشتراكية والحرية والوحدة والعدالة وغيرها،
والأخطر أنها تتشابك مع مفاهيم ثقافة محلية وتختفي كمفاهيم
استعمارية حتى لو رحل المستعمِر وتتداخل مع الثقافة الشعبية،
لأن القاموس الاحتلالي اللغوي هو أخطر من الجيوش التي يمكن مواجهتها بالمقاومة المسلحة أو الثقافية.
لم يسلم أدباء من الوقوع في فخ مفاهيم ما بعد الكولونيالية،
وبعضهم شعراء أو روائيين من حملة نوبل في الرواية مثل وولي سوينكا وأيميه سيزار، وسلمان رشدي الهندي الأصل والروائي الهندوسي ف. س.نايبول من أسرة مهاجرة الى بريطانيا وحاز على نوبل،
وتبنى هؤلاء النظرة الاستعمارية من خلال مفاهيم محلية، مما يعكس قدرة الخطابات الاستعمارية على الاختراق.
في العالم العربي جيوش من هؤلاء بقشرة حداثية مهلهلة تمشي بين العوام.
في محطات حرجة في تاريخ الشعوب اليوم، يتحكم الخطاب ما بعد الكولونيالي بالثقافة المحلية من قبل مثقفين وكتاب ومواطنين، ونتيجة الانهيار العام أمام موجة عارمة وقوية،
سوف يقاوم السقوط عدد قليل من المثقفين والكتاب، وهؤلاء، سيظهرون في محيط السقوط العام والابتذال والتداعي “كحفنة مجانين” في مواجهة تيار عارم،
بل سيجري وصفهم بالمجانين من قبل” التابعين” وما هو أسوأ لأن السقوط الثقافي كالأخلاقي بطيء ومتدرج ومراحل ويحتاج الى بيئة متقبلة حتى يختنق المصاب به كما في غرفة موقد فحم مغلقة دون أن يشعر، لاخراس آخر معاقل المقاومة الثقافية، ويتولى مثقفون مأجورون أو سطحيون مهمة الوصم والتشويه،
وهو أمر يمشي بين الغوغاء وفاقدي الاستقلالية الشخصية والثقافة القانونية والاحترام الذاتي.
معركة المثقف العربي في مواجهة عشرات السلط وأضخم من معركة المثقف الغربي الذي ولد كقوة مقاومة لكل أنواع السلط في حين كانت ولادة المثقف العربي في أحضان قصور السلاطين والملوك كمدون سيرة ومؤرخ حملات ومنظم شؤون الجباية وترويض الناس بخلق إسلام مهجن خاص بالنخب الحاكمة كما اليوم كما قام الاستعمار البريطاني بتهجين البوذية والهندوسية في الهند بالمسيحية ولم يعد يعرف الهندي هل هو بوذي وسيخي أم مسيحي متأورب؟
من هذه الثنائية وفقدان الهوية ولد أمثال الروائي سلمان رشدي وغيره وهي السلالة التي ولدت عندنا بنعومة وسرية وصارت طبقة في الاعلام والثقافة خارج السيطرة في حين التركيز يجري على خراب السياسة مع ان خراب الثقافة هو الممهد والمسوغ ولقدرة أهل القلم في التخفي وتزييف الحقائق عن طريق حماسة بلاغية كاذبة في مجتمع يسيطر عليه الخطاب السياسي الانشائي االمدرسي وليس الخطاب الفكري بحيث يستطيع أي مشعوذ أو إنتهازي من تحريك الناس كما يرغب واللعب على الاهواء والمشاعر الشعبية.
تصدى مفكرون كبار لمهمة فضح حقيقة هذه الخطابات المزيفة القمعية المغلفة بشعارات الحرية والحداثة أمثال: فرانز فانون وأدوارد سعيد،
والمفكر الهندي الكبير هومي بابا، والدكتورة البنغالية غياتري سبيفاك أو ما يعرف بــــ الرباعي المقدس في نقد الخطابات ما بعد الكولونيالية
وكشف زيفها.
هؤلاء اثبتوا ان التفكير ليس خاصية اوروبية كما هو في ” المركزية الغربية europocentrisme” التي وصفها المفكر سمير أمين بــــ:
” أيديولوجية أو محيط مركزي، أو تبعية للتطور الرأسمالي” تؤمن بالتفوق العرقي ترى الحياة والاحداث من منظور غربي إستعلائي كما لو أن الافريقي واللاتيني والآسيوي لكي يفكر، يجب أن يفكر من خلال وعي أوروبي،
أي لا يفكر بل يردد وحتى في الأدب هناك إقبال عربي على الأدب الأوروبي وليس الآسيوي والأفريقي والأمريكي اللاتيني والاسكندنافي إلا في حالات نادرة عندما استطاع أدباء كبار كغابريل ماركيز الكولومبي وماريا فارغاس يوسا البيروي ــــ البيرو ــــــ وميغيل أنخل أوسترياس الغواتمالي ومؤلف الرواية الشهيرة” السيد الرئيس” وهؤلاء حصلوا على جائزة نوبل وأسسوا سردية عن الحياة تختلف عن السردية الغربية حتى أن ناقداً أوروبياً قال بإزدراء عن غابريل ماركيز” كيف استطاع هذا القادم من أصل متواضع أن يهدد المركزية الغربية؟”. هذه المركزية لا تهدد لا في السياسة ولا في الحرب ولا في الادب لانها رؤية عنصرية طبقية.
في صفوفنا اليوم الكثير من التابعين الذين يتكلمون كثيراً دون أن يقولوا شيئاً في الحقيقة، لأن عقل التابع في مكان آخر، مطحنة بلا قمح عدا الضجيج العالي، لكنه الأخطر من جيوش الغزو:
يتوهم التابع عندما يصدق أنه يفكر، هو قاموس جاهز ومخلوق مهجن يبحث عن هوية في المكان الخطأ وفقد الصلة بتاريخه الحقيقي وصار سهل الاختراق من أية جماعة أو سلطة أو حتى فرد ولم يعد يعرف من هو عندما صنعوا له ثقافة غير ثقافته وتاريخا غير تاريخه وتولت الجماعات والأحزاب المحلية صناعة الشطر الثاني من الضياع بصناعة دين سياسي مهجن يهدد كل مرة بوقوع مذبحة .
عندما يتم تهجين لغة لمواطن بثقافة من خارجه وبتاريخ مختلف لتاريخه وتلبيسه شخصية غير شخصيته وطبيعته، يمكنه أن يتكلم كما يريد لكنه من المستحيل أن يفكر كما يريد بل يتوهم لأن التفكير بقاموس جاهز ومزيف هو اجترار وتكرار واستعادة كما يحدث في أقفاص الببغاوات وفي أقفاص الآيديولوجيا التي أنتجت معوقين ومخصيين فكرياً وعقلياً Castration Mintel وملقنين وديكة أرادت أن تكون طواويساً فنسيت مشيتها ولم تتعلم مشية الطواويس
عندما فشلت الأوهام السياسية، لجأ بعضهم الى الأدب من باب انقاذ ما يمكن انقاذه وخسارة حياة ، لكن الأدب فن الصفاء والانسجام والصدق والبراءة والموهبة والكفاءة، فنقلوا لغة السياسة المبتذلة الى لغة الأدب وخسروا كالديكة المشيتين.