رؤي ومقالات

حسام السيسي يكتب :اقتصاد الواجهة: حين تتحول الدولة إلى “ديكور” يدير المشهد ولا يحل الأزمة

لست خبيرًا اقتصاديًا، لكني كمراقب للشأن العام أرى أن الاقتصاد المصري يدير نفسه اليوم وفق نموذج سياسي يمكن تسميته “اقتصاد الواجهة”.
في هذا النموذج، لم تعد فعالية الدولة تُقاس بقدرتها على حل الأزمات الاقتصادية أو بناء قطاعات إنتاجية حقيقية، بل بقدرتها على إنتاج مشهد جديد: افتتاح ضخم، مدينة مبتكرة، متحف عالمي، أو عاصمة كاملة. وهنا تتراجع السياسات الواقعية لتحل محلها “الكاميرا” التي تعيد تقديم الدولة في صورة مشروع يجذب الانتباه، دون أن يمس جذور الأزمة.
القاعدة في هذا النموذج بسيطة: كلما ازداد عمق الأزمة، ازداد حجم المشروع المعروض لمعالجتها – على مستوى المشهد فقط.
في الدول التي تتعامل مع أزماتها بجدية، نرى إصلاحات هيكلية: تحفيز الصناعة، زيادة الصادرات، إصلاح التعليم والضرائب. أما في اقتصاد الواجهة، فكل أزمة تواجه بمشروع جديد. عندما يتراجع الجنيه، نعلن عن مدينة جديدة. عندما ترتفع الأسعار، نكشف عن افتتاح ضخم. تبدو الدولة في حركة دائمة، لكنها حركة تشبه ركض الهامستر في عجلته: سرعة بلا وجهة، وضجيج بلا تغيير.
والغريب أن هذه المشاريع، رغم ضخامتها الإعلامية، لا تخلق قيمة اقتصادية مستدامة. هي لا توسع قاعدة الإنتاج، ولا تخفض الواردات، ولا تبني صناعات محلية قادرة. بل على العكس، تستنزف موارد الدولة عبر الاقتراض، لتعزز نموًا هشًا قائمًا على الإنشاءات والعقار – نمو يتبخر مع أول صدمة اقتصادية. هكذا يصبح المشروع جزءًا من المشكلة، مجرد واجهة براقة تخفي هشاشة الهيكل تحتها.
في النموذج الطبيعي، الدولة هي “منظم” يضع القواعد ويحمي المنافسة. لكن في نموذج الواجهة، تتحول إلى “مخرج” للمشهد العام. بدل معالجة جذور الأزمات، تَبني ديكورًا جديدًا خلفها. لذلك نرى عاصمة إدارية جديدة بدل إصلاح الجهاز الإداري، ومدينة إعلامية جديدة بدل تحرير الإعلام من القيود، ومتحفًا عالميًا بدل تطوير التعليم والبحث العلمي. إنها حلول معمارية لمشكلات سياسية ومؤسسية.
خذ مثالًا مدينة الإنتاج الإعلامي الجديدة: تُطرح كحل لجذب الشركات العالمية. لكن السؤال: هل المشكلة في مصر هي نقص الاستديوهات؟ أم هي في البيروقراطية والقيود الأمنية وغياب الضمانات؟ الجواب واضح. ومع ذلك، يأتي الحل على طريقة اقتصاد الواجهة: بدل إصلاح البيئة، نبني مدينة جديدة. بدل تفكيك القيود، نُقيم مشهدًا بصريًا ضخمًا.
الخروج من هذه الدائرة لا يعني وقف المشاريع كليًا، بل كسر الفلسفة التي تقف وراءها. المطلوب هو إعادة الاعتبار للسياسة الاقتصادية بدل الاعتماد على المشهد، وتحويل الاستثمار نحو الصناعة والتكنولوجيا بدل العقار والاستهلاك، واستعادة دور الدولة كحَكَم لا كمُخرج، وتحرير المجال العام والإعلام ليعودا إلى صناعة المعرفة بدل صناعة اللقطة.
فالدولة القوية ليست التي تبني أكبر عدد من الواجهات، بل التي تبني الاقتصاد الحقيقي الذي تقف عليه تلك الواجهات. اقتصاد الواجهة ليس مجرد خطأ في الأولويات، بل هو منطق حكم كامل: منطق يرى في المشهد بديلًا عن السياسة، وفي الافتتاح بديلاً عن الإصلاح، وفي الديكور بديلاً عن الدولة. والتغيير الحقيقي يبدأ حين ننتقل من إنتاج الصورة إلى إنتاج القدرة، ومن هندسة المشهد إلى هندسة المستقبل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى