كتاب وشعراء

أكاديمية تغسل الصحون…..بقلم / سحر عبدالقوي 

كنت أغسل الصحون التي تكدست في حوض المطبخ كربة منزل نموذجية حين بدأ عقلي في النشاط التلقائي الذي يقوم به. هذا الجزء من جسدي مستقل تماما. يعمل بمفرده ويقوم بتحليل بيانات لم اطلبها منه، يحلل مواقف لم أعد بحاجة لتحليلها، ويستجوب أناس أخرجتهم من حياتي بالفعل، يستجوب دوافعهم ويحلل ردات فعلي. وأنا أراقبه بينما تنشغل يداي بالجلي كمن يتطلع لموجات بحر تتلاطم وتتداخل. أولئك الذين منحهم حسن حظهم اطلالات مطبخية علي موج بحر يتلاطم فيتمكنون من مشاهدة البحر وهم يقومون بأعمال الجلي. لم يهبني الحظ ولا كفاحي اطلالة مطبخية علي أي شيء سوي منور سددت كل منافذه لبيتي كي لا يتسلل الفئران إليه. واكتفيت بمشاهدة عقلي وهو يصول ويجول.

عقلي الذي لامني علي بطء ردة فعلي عندما خدعني أحدهم. نحن لا ننخدع بعقولنا لكن يخدعنا تداخل مشاعرنا مع عقلنا. تُغَيّب المشاعر أحكامنا العقلانية أحيانا. تخدرها بمزيج من الرغبات والاحتياجات والشهوات. تكمم خلطة المشاعر عقلنا وتسكته. صَهِ ياهذا ودعني استمتع بالخداع قليلا. فيصمت العقل مُكدرا منتظرا هدوء سَوْرة العاطفة الأولي ويبدأ بعدها في إعلان غضبه. ويخبرنا بالحقيقة عارية وهو أننا تعرضنا للخداع. أخفي أحدهم أهم معطيات حياته عنا ليُسمَح له باقتحام عوالمنا.. تلك الحقائق التي ما إن تجلت أدركنا أنه فخ وأن ذلك الاقتحام خديعة ومكر. وأن هذا المقتحم ليس محبا بل مغتصبا بأسلوب ماكر. هل كنا لنقبل إدخاله لولا أننا عُميت أعيننا عن الحقيقة؟ هل كنا لنرضي؟ كان خطأ. كان خطأ تأخرنا في اصلاحه كثيرا

“سورته الأولي” يرد عقلي علي عقلي متسائلا أين قرأنا هذا التعبير؟ (عقلي اعتاد علي لامنطقية الانتقال بين الموضوعات) يتحرك عقلي للوراء..قرأته عندما كان عمري اربعة عشر عاما هكذا يجيب..قرأناه في ترجمة مسرحية “عطيل” التي عثرنا عليها وسط مجموعة أعمال لكاتب يدعي شكسبير. لم نكن نعرف من هو شكسبير (النون هنا تعود لأنا وعقلي)، ولم نكن نعرف الفارق بين المسرحية والقصة والرواية، ولم نكن نهتم بالتفاصيل لنهتم باسم المترجم. لكنها كانت ترجمة رائعة لم نشعر خلالها بأن الكتاب مترجم. وجاء النص الشعري المترجم علي قدر ثقل ورصانة الأصل. الأصل الذي قرأته بعد أربعة أعوام آخرين باللغة الانجليزية عندما دخلت كلية الآداب. عندما كنت في الرابعة عشر والخامسة عشر من عمري كنت أهرب من دروس الكيمياء العضوية والفيزياء وارتمي في أحضان عطيل وروميو وجوليت وماكبث وهاملت وكتابات طه حسين ويوسف السباعي وغيرهم. اعتدت أن اضع الكتاب داخل الملزمة واوهم الجميع انني أذاكر بينما أنا غارقة في توسلات الديدمونة، تغرق وجهي دموعي أسفا علي مصيرها الذي سطره حبيبها بغيرته العمياء وسطحيته وتلاعب الاخرين به.

كنا نهرب من الرياضة واحد والتفاضل لنلقي التحية علي “رسالة من امرأة مجهولة” _الكتاب وليس الفيلم_ ، و “الحب الضائع” ،و”فلسفة الذة والألم”، والقصص القصيرة التي سطرها محفوظ في بداياته و “عبث الاقدار” . ومن عبث الاقدار أنني أجبرت نفسي علي دراسة العلوم من أجل أمي حيث كان ذكائي يغرِ أمي بإمكانية نجاحي في دراسة الطب أو الصيدلة. كانت متكئة علي التزامي وجديتي وطاعتي لها. كنت مطيعة فعلا وجادة جدا. فدرست في الشعبة العلمية من أجل الالتحاق بالطب أو الصيدلة لكي تفرح أمي. كانت أمي تلمع عيناها كلما عادت من عملها لتحكي لنا عن العريس الجديد الذي تقدم لماري  بنت طنط كاميليا فور تخرجها في كلية الصيدلة وعملها مع أخيها الأكبر في صيدليته التي اشتروها له. كل اسبوع كان أحد الأطباء من بلدتنا والبلدات الصغيرة المجاورة يقصد الصيدلية حيث تقف “ماري” بنت طنط كاميليا. يعاينها ثم ما يلبث أن يتصل ويخبرهم برغبته وأهله في زيارتهم. كان ما يغري أمي في دراسة الصيدلة هو أن أتخرج لأصبح مثل ماري: يقصدني أحد أطباء بلدتنا المسلمين ليعاينني في الصيدلية ولأنني جميلة كانت تثق أنني سأحصل على الأفضل ثم ما يلبث أن يتقدم لطلب يدي ويرمي بياضه وأذهب أنا مع أفضلهم لتؤمن لي حياة مرفهة كتلك التي عشتها في كنف والدي. أمي بسيطة وأحلامها بسيطة ولا تفقه تعقيدات الحياة المعاصرة وتعقيدات الزواج وتفاصيله المرهقة. فخيب امتحان الفيزياء  طموحها وجاء مجموعي في الثانوية العامة أقل مما تطلبه كلية الصيدلة ورفض أبي ايداعي إحدي الجامعات الخاصة ذات المصاريف الفلكية وقررت وقتها أن اتخلص من الصداع الذي يدور حولي وأرضخ لرغبة أبي اللحوحة في أن ألتحق بكلية الآداب قسم اللغة الإنجليزية. وهناك التقيت بالسيد شكسبير وعرفت أنني انهيت اعماله الكاملة وانا لا اعرف أنني سأدرسها بشكل متخصص وسأتعلم الفارق بين القصة والرواية والمسرحية. وقادني الطريق إلى ابعد من ذلك.

هكذا انهي عقلي حواراته وتلاطمات موجه بينما أنا أقوم بتجفيف الأواني وإيداعها في أماكنها المخصصة في المطبخ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى