كتاب وشعراء

•{ [46] الوهابية وإجهاض القوى التقدمية – 6 }• _____✍بقلم : الكاتب محمد السني

(46) الوهابية وإجهاض القوى التقدمية – 6.. بقلم الكاتب والباحث: محمد السني
يُعتبر الباحث والمفكر التقدمي الكبير الدكتور سيد القمني (مواليد العام 1947)، أحد أهم الباحثين العظام في التاريخ الإسلامي، وتناول العديد من المناطقه الشائكة داخل التراث الإسلامي في دراساته ومقالاته الجادة والمتميزة والفريدة. واتسمت أفكاره بالجرأة في تصديه للفكر الذي تؤمن به جماعات الإسلام السياسي وخاصة التيار الوهابي. ففي العاشر من نوفمبر 2004، في لقائه مع صحيفة [ميدل إيست تايمز] اعتبر القمني أن بداية ولعه في التعمق بالتاريخ الإسلامي، يعود إلى نكسة حزيران 1967، حيث بدأ القمني وعلى لسانه بالتساؤل، ماذا حدث؟ وقرر أن يكون جنديًا من نوع آخر وأن يضع يده على جوهر وجذر المشكلة والتي لم تكن مشكلة إخفاق عسكري وحسب بل كانت حسب رأيه متأصلة في الإطار الفكري الديني وليس في الإطار الفكري العروبي. فقد اعتبر أن الموروث الثقافي العربي تعود جذوره لتراكمات ثقافية وحضارية لشعوب سكنت منطقة الشرق الأوسط قبل الإسلام، وأن الثقافة العربية لم تبدأ مع بداية الوحي وأن هناك دور لحضارات وشعوب وديانات قد سبقت الإسلام وساعدت في صياغته وظهوره. وعبر القمني عن هذا بقوله أنه: “لا شيء إطلاقًا يبدأ من فضاء دون قواعد مؤسسات ماضوية يقوم عليها ويتجادل معها، بل ويُفرَز منها حتى لو كان دينًا” والاعتقاد بان كل فكرة سبقت الإسلام ليست متكاملة بل فيها الكثير من العيوب يجعل المرء حسب تعبير القمني متقوقعًا في إطار يعتقد أنه الأفضل والأكمل، ومثل هذا الفكر غير مستعد لنقد الذات أو التغيير أو الحوار، وهذا بالتالي أدى حسب تحليل القمني إلى نشوء فكرة المخلص أو العالِم أو البطل الذي له القدرة على فهم الغموض الإلهي والذي يدرك ويفهم في هذه الأمور أكثر من الإنسان البسيط، وهذا بالتالي أدى إلى نشوء ترتيب طبقي في المجتمع لاعلاقة له بالاقتصاد، وأصبح الشعب مقسمًا إلى قسم يقود وقسم يُقاد، وبهذا لم يكن هناك أي مجال للتغيير الاجتماعي لسعة الفجوة المصطنعة بين القائد والشعب. وحسب رأي القمني فإن هذه الظاهرة ليست حصرًا على الإسلام أو العرب فقط بل الإنسان الشرقي على مد التاريخ وشمل حسب ترتيب القمني أوزيريس إله البعث والحساب عند قدماء المصريين إلى اليهودية والمسيحية وحتى إلى عصرنا الحديث. وسعى القمني إلى معرفة جذور طريقة تصرف المسلمين والعرب وفتح نوافذ قديمة للوصول إلى اكتشاف حقيقة النفس، هل المصري على سبيل المثال عربي، أم مسلم متشدد، أم مصري. كما أن انعدام وضوح الرؤية حول الشعب الشرقي حسب تعبيره أدى إلى سلسلة من الدكتاتوريين فالرجل حسب تعبيره دكتاتور على بيته ورب العمل دكتاتور على عماله والأستاذ الجامعي دكتاتور على الطالب وعليه فان الإنسان الشرقي علم نفسه أن يكون دكتاتورًا لدرجة انه فقد معنى الحرية. لذا وقف القمني في وجه كل مَن يحاول تقييد حرية التعبير بحجة عدم المس بالمقدسات.
اتبع الدكتور سيد القمني كلًا من [المنهج المادي التاريخي] و[المنهج الرياضي] في أبحاثه ودراساته، مع حشد المادة التي تتناسب والمنهجين معًا، وتصنيفها وتبويبها لتتلاءم مع الخطة والمنهجين، لتصبح إبداعًا متفردًا بذاته تفرد به القمني في جل أعماله البحثية. وفي هذا الصدد يقول القمني: “… فمنهج الاستدلال الرياضي يبدأ بفرض الفروض لحل المشكلة الماثلة أمام الباحث، ومن ثم يأخذ بجمع المادة العلمية المتعلقة بهذه المشكلة بالذات من مصادرها ومراجعها لتشكل له مادة خام يدعم بها فروضه، ويستخدمها أيضًا كقرائن وبراهين على وجهة نظره التي يريد أن يصل إليها في البرهان، وهو عادة المنهج الذي استخدمه كأسلوب عرض للمادة المجموعة وإعادة ترتيب عناصرها حسب الأهداف المرصودة، ثم أعمد إلى المنهج المادي التاريخي الذي استخدمه كأسلوب عمل وفحص لمكونات النص وعلاقته بزمنه وبيئته واقتصاده وشكله المجتمعي ونطاقه السياسي .. إلخ، ثم أعمد إلى تفسير النصوص لتنطق بالمخفي وراءها من أحداث حدثت في واقع الأرض، وبعد حشد المادة يتم تصنيفها وترتيبها ليلحق كل منها بالأبواب المرصودة في خطة البحث” مقالة مطولة للدكتور سيد القمني بعنوان [درس في البحث العلمي وأخلاقياته] الحوار المتمدن – العدد: 2855 – 11/12/2009. واعتبر القمني أن القرآن هو أكثر من مجرد كتاب ديني، وأنه يحق له دراسته من منظور تاريخي، باستخدام المعايير العلمية المستخدمة في اختصاصات أخرى. وأن هناك بعدان للقرآن، البعد الأول حقائق تتعامل مع أحداث تاريخية حدثت في التاريخ الإسلامي مثل غزوة بدر ومعركة أُحد وصراع اليهود مع المسلمين في يثرب وغيرها من الأحداث. وهناك بالإضافة إلى هذا الجانب التاريخي جانب روحي وميثولوجي أسطوري لم يحدث بصورة عملية فيزيائية وإنما يمكن اعتباره رموز وليس حقائق تاريخية، ويورد القمني كمثال على هذا البعد نزول الملائكة للقتال إلى جانب المسلمين في معركة بدر ضد قريش وحادثة الإسراء والمعراج التي لابد أن تكون رموزًا حسب اقتناع القمني. وعليه فإن المسلم وحسب رأيه يجب أن يميز بين ماهو حقيقة تاريخية وبين ماهو مجرد رمز لكونها تتحدى قوانين المنطق والفيزياء ويوضح القمني فكرته بأن الاعتقاد بأن الملائكة نزلت بالفعل في غزوة بدر فيه إساءة غير مباشرة إلى الإسلام لكونها مناقضة لأفكار لحقائق أخرى، ويورد القمني مثالًا وهو لماذا يحتاج الرسول محمد (ص) أن يرسل أشخاص ليستطلعوا أمور قريش قبل أو بعد المعركة بل ما الداعي لأن يسأل الرسول محمد بن مسلمة لأن يقتل الشاعر اليهودي كعب بن الأشرف إذا كان الرسول محاطًا في أغلب الأوقات بالملاك جبريل لماذا لم يرسل الملائكة لهذه المهمات بدلًا من أناس من البشر. ولذلك وحسب القمني يجب الفصل بين الحقيقة التاريخية والرموز وهذا الفصل هو الخطوة الرئيسية نحو فهم الإطار الفكري الإسلامي. ويرى القمني أن القرآن يجسد نصًا تاريخيًا ولا ضير من وضعه موضع مساءلة إصلاحية نقدية وإن هذا النقد الإصلاحي لايمثل ردة أو استخفافًا بالقرأن حسب رأيه بل هو يعتبره: “اقتحامًا جريئًا وفذًا لإنارة منطقة حرص من سبقوه على أن تظل معتمة وبداية لثورة ثقافية تستلهم وتطور التراث العقلاني في الثقافة العربية الإسلامية ليلائم الإسلام احتياجات الثورة القادمة”. وللقمني نظرة في التاريخ يخالفه عليها الكثيرين وهو أن مهمة الباحث ليست تدقيق معلومة يعطيها لنا علماء وأن المعلومات سواء كانت خطأً أم صوابًا فهي ذلك المُعطى الجاهز لنا من أهل التاريخ فيجب إذن حسب القمني تحليل الحقيقة بنفس مستوى تحليل الأسطورة إذا ماكانت الخرافة بنفس مستوى الحقيقة لدى البعض.
اشتغل الدكتور سيد القمني على مرحلة ما قبل الإسلام في الجزيرة العربية، وصولًا إلى تأسيس الدولة الإسلامية، والاقتصاد والعادات والصراعات السياسية والقبلية قبل الدينية. واعتبر في أغلب أبحاثه أن العامل السياسي هو السبب في اتخاذ القرار الديني، وذلك في الفترة المبكرة من التاريخ الإسلامي. فاعتمد على تحليلات علمية لقصص الأنبياء كما في كتابه [النبي إبراهيم] حيث تناول فجر الرسالة المحمدية بأدوات حذف منها ما رآه أساطيرًا أو رموزًا. والمسألة الرمزية في تفسير النص القرآني، وتحقيق الحدث الإسلامي، جعلاه يصف نفسه بالمعتزلي (إحدى أهم المدارس العقلية في التراث الفكري الإسلامي). لذا رأى القمني أن التاريخ بحاجة إلى نظرة موضوعية متجردة بعيدة عن النصوص المعلبة التي تضعه في إطار واحد، إطار كهنوتي لا يصح الحيد عنه، أو التفكير خارج دائرته، لكي نصل إلى قراءة عقلانية نستطيع بها فهم الأحداث التي شكلت ثقافتنا، وبُني عليها تراثنا. بهذا المنهج يناقش القمني دور البيت الهاشمي في التمهيد لتأسيس الدولة الإسلامية على يد النبي محمد (ص)، ويرصد ما كان لديهم من تطلعات ليكونوا أصحاب حكم ورئاسة، ويناقش أيضًا دور مركز مكة التجاري في دعم تلك التطلعات، متتبعًا مراحل هذا البناء من بدايته كحلم، إلى تنفيذ التخطيط الهاشمي ودعم الدعوة الجديدة، إلى التعصب لابن عمومتهم ونصره، وإرساء قواعد الدولة الإسلامية الناشئة. ويعبر كتابه [الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية] عن وجهة نظر وتحليل القمني لجذور فكرة تأسيس الدولة الإسلامية، واعتبر البعض هذا الكتاب واحد من أهم الإصدارات العربية المعاصرة على الإطلاق. وفيه يرى القمني أن فكرة النبي المنتظر كانت وليدة التحولات التاريخية التي بدأها جده عبد المطلب، وأن عبد المطلب بن هاشم جد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرغب في وحدة سياسية بين عرب الجزيرة، نواتها مكة تحديدًا، وكان ذلك في وقت تسوده بيئة التفكك القبلية البدوية التي يُستثنى منها منطقة الحجاز بمدينتيها الرائدتين مكة ويثرب حيث هيأ وضعها الجغرافي ووعورة الطريق إليها أن تكون بيئة عربية خالصة بعيدة عن الصراع الدولي والتأثر بالحضارات الأجنبية دون أن تفقد التواصل معها. ويتحدث القمني عن شهرة العرب بالتجارة وكيف انتقل نشاط التجارة لمنطقة الحجاز (مكة ويثرب)، بعد أن وقعت اليمن فريسة الاستعمار الحبشي ثم الفارسي ثم تسببت الصراعات بين الأوس والخزرج داخل يثرب لرجوح كفة مكة التجارية، وبنهاية القرن السادس كانت مكة بحق هي مركز الطريق التجاري الرئيسي، ويربط القمني تحالف قريش مع الأوس ضد تحالف أهل يثرب مع الخزرجيين وكان مع النبي صلى الله عليه وسلم ضد قريش مستبعدًا اهتداء أهل المدينة (يثرب) لدين الله ومحاربتهم لقريش من هذا المنطلق الديني فقط. وتحدث القمني عن كثرة الكعبات التي كان العرب في الجاهلية يحجون إليها ويقدمون عندها النذور لآلهتهم ويطوفون بها، وكيف انتهى المطاف بأن استضافت مكة جميع أرباب التجار الوافدين من العرب الجاهليين [أصنامهم] فحظيت بقداسة خاصة لديهم، وضاعف من ارتفاع نجمها هزيمة حملة الفيل بقيادة أبرهة التي أرادت هدم الكعبة. كما عرض القمني لتاريخ السيطرة على مكة عبر التاريخ فمن قبيلة جرهم ذات الأصل اليمني القحطاني ثم سيطرة إياد بن نزار، الذي غلبه عليها بعد ذلك مضر ومن مضر انتزعت قبيلة خزاعة اليمنية مكة مرة أخرى، لينتهي الأمر إلى الاستقرار في يد قريش في قبضة قصي بن كلاب وكان سيد قريش الذي فرض الضرائب على القوافل التجارية المارة وأرسل الرسل للممالك المجاورة وبنى دار الندوة التي يتشاور بها كبار قريش في الحرب والسلم وبعد رحيل قصي نشب صراع بين ولديه عبد الدار وعبد مناف. ويقول القمني أن الأب أوصى بكل السلطات لابنه البكر عبد الدار فزاد حقد عبد مناف على أخيه وما حظي به من تشريف. وتمر الأجيال ويتشاجر جيل أبنائهم في هذا الشرف وبعد فترة ينتهي الأمر بسلام حينما تقاسم أبناء العمومة ألوية الشرف الموروث، فاصطلحوا على أن تكون السقاية والرفادة والقيادة لبني عبد مناف والحجابة واللواء لبني عبد الدار لكن بني عبد مناف (هاشم وعبد شمس وعبد المطلب ونوفل)، وعلا نجمهم وفشا أمرهم إلى حد أنهم كانوا هم سفراء الأمان والإيلاف لدول العالم الكبرى حينذاك ثم تستقر ألوية الشرف (القيادة والسقاية والرفادة) في يد هاشم بن عبد مناف بالتحديد دون بقية إخوته. وفي هذا يقول القمني: وما إن رحل عبد شمس عن الدنيا حتى ساورت ولده أمية الأطماع في أخذ ما بيد عمه (هاشم) من ألوية الشرف بالقوة. ثم يكمل القمني قصته: كادت الحرب تقطع صلات الرحم، ولكن مرة أخرى تفادى القوم الكارثة وقضى كاهن خزاعي تقاضوا إليه بنفي أمية بن عبد شمس عشر سنوات لمنفى اختياري، فشد رحاله إلى بلاد الشام وارتبط بأهلها بأواصر السنين والمصاهرة، وقامت هناك دولة كبرى بعد سنين يرأسها حفيده معاوية تلك التي عرفتها الدنيا باسم الدولة الأموية. ثم يلوح القمني لفكرة أن هذه الدولة ظلت تصارع أبناء العمومة الذين كونوا الدولة الإسلامية وخاصة العباسيين نسبة للعباس بن عبد المطلب بن هاشم. وتحت عنوان: [بنو هاشم من التكتيك إلى الأيديولوجيا] يقول القمني: كم كان هاشم – الجد الثاني للرسول – سخيا مع قومه وهو أول من سن رحلتي الشتاء والصيف، كما كان سفير قريش لدى الملوك دائما ولكنه دعم قوى حزبه الهاشمي العسكرية برجال الحرب من بني النجار من الخزرج أي اليثاربة، وترك ولده (عبد المطلب) جد الرسول الأول لينمو في حياة الفروسية ويتزوج من بنت جناب بن كليب الخزرجي تأكيدًا للأواصر، ويستشهد القمني بقول عبد المطلب جد النبي: “إذا أراد الله إنشاء دولة خلق لها أمثال هؤلاء”، قالها وهو يشير إلى أبنائه وحفدته. ويواصل القمني بقوله: رأى عبد المطلب أن الداء في جزيرة العرب في فرقة القبيلة والعشيرة لتعدد أرباب القوم ومن هنا أسس فهمًا جديدًا للاعتقاد يجمع القلوب عند إله واحد ويلغي التماثيل والأصنام، ومن هنا أعلن تبرأه من أرجاس الجاهلية وعودته لدين جده إبراهيم وهو دين الفطرة [الحنيفية]. وفي فصل يحمل عنوان [ظهور النبي المنتظر] يؤكد القمني أن الإسلام حين نزل بمكة المكرمة لم يلغ حرمة مكة، وإنما أخذ على عاتقه محاربة العصبية القبلية وتعدد الآلهة ثم روى القمني كيف أن رسول الله أخذ يتابع [خطوات جده عبد المطلب] لغار حراء مما حول هذا الكهف لمكان مقدس وبالحنيفية آمن، ولم يكد صلى الله عليه وسلم يبلغ الأربعين من عمره حتى حسم الأمر بإعلانه أنه نبي الأمة.
في كتابه [العرب قبل الإسلام] يبدأ الدكتور سيد القمني بتوضيح أن عجز الإنسان وضعفه أمام ظواهر الطبيعة المتقلبة وقواها، مع قصور تجربته ومعرفته، كان هو الدافع لتصور قوى مفارقة ميتافيزيقية هي التي تقف وراء متغيرات الطبيعة وثوراتها وغضبها وسكونها. ولأن تلك الظواهر لم تكن مفهومة، فقد جاءت تلك القوى ايضًا غيبية، ولذلك ارتبطت عقائد الناس في أربابها بوسطها البيئي، حيث عبرت عن ذلك الوسط وأظهر مظاهره وأكثرها تكرارًا وديمومة، ومن هنا قدس العربي أجرام السماء التي تظهر بكل وضح في ليله الصحراوي المنبسط دون حواجز حتى الأفق بدائرته الكاملة، كما قدس الأحجار خاصة ذات السمات المتفردة منها. ولكن اتساع رقعة الجزيرة على خطوط عرض واسعة، أدى إلى تبيان ظروف البيئة والمناخ، مما أدى إلى تعدد مماثل في الظواهر، وبالتالي تعددية مفرطة في العبادات، هذا ناهيك عن وعورة المسالك في الجزيرة، والتي أدت إلى ما يشبه العزلة لمواطن دون مواطن، خاصة تلك التي في الباطن، مما أدى إلى احتفاظها بألوان من العقائد الموغلة في قدمها وبدائيتها، نتيجة عدم الاحتكاك بالثقافات الأخرى التي تساعد على تطور الرواسب المعرفية من ثم العقائدية. وبذلك كان التعدد في العبادة، حيث يمكنك أن تجد إضافة لعبادة أجرام السماء وعبادة الأحجار والصخور، بقايا من ديانات بدائية كالفيتشية (تقديس الأشياء المادية كالحجارة)، والطوطمية التي تعتقد بوجود صلة لأفراد القبيلة بحيوان ما مقدس، فتظهر في سميات قبائل العرب، مثل (أسد، فهد، يربوع، ضبة، كلب، ظبيان… الخ)، هذا إضافة إلى عبادة الأوثان وتقديس الأشجار. كذلك عبد العرب كائنات اسموها (الجن) خوفًا ورهبة، ودفعًا لأذاها وقد نسبوا إلى الجن الهتف قبل الدعوة مباشرة، حيث كثر الهواتف أي الأصوات التي تنادي بأمور وتنبىء بأخرى بصوت مسموع وجسم غير مرئي. كما انتشرت عبادة الأسلاف، وهي أشد العبادات انتشارًا وأقربها إلى الظرف المكاني والمجتمعي، ويبدو لنا أن تلك العبادة كانت غاية التطور في العبادة في العصر قبل الجاهلي الأخير، فاستبدلت بمفهوم الوطن مفهوم الحمى، والذي يشرف عليه سيدهم وأبوهم القديم وربهم المعبود، ومن ثم تعددت الأرباب بتعدد القبائل. ولم يأت الاعتراف بآلهه أخرى لقبائل أخرى إلا فيما بعد، بعد دخول المصالح التجارية للمنطقة، واستعمال النقد، وظهور مصالح لأفراد في قبيلة ترتبط بمصالح لأفراد في قبيلة أخرى، مما أدى لاعتراف متبادل بالأرباب، وهو الأمر الذي بدأ يظهر خاصة في المدن الكبرى بالجزيرة على خط التجارة، في العصر الجاهلي الأخير، كما حدث في مكة والطائف ويثرب وغيرها. ويستطرد القمني: وعلى المستوى المعرفي دأب بعض مفكرينا في شؤون الدين – عافاهم الله – على الحط من شأن عرب الجزيرة قبل الإسلام، وتصويرهم في صورة منكرة، وسار على دربهم أصحاب الفنون الحديثة في القصة والسيناريو والأعمال الفنية السينمائية، بحيث قدموا ذلك العربي عاريًا من أي ثقافة أو حتى فهم أو حتى إنسانية، حتى باتت صورته في ذهن شبيبتنا، إن لم تكن في أذهان بعض المثقفين بل والكتاب أيضًا، أقرب إلى الحيوانية منها إلى البشرية. وقد بدا لهؤلاء أن القدح في شأن عرب قبل الإسلام، وإبرازهم بتلك الصورة المزرية، هو فرش أرضية الصورة بالسواد، لإبراز نور الدعوة الإسلامية بعد ذلك، وكلما زادوا في تبشيع عرب الجاهلية، كلما كان الإسلام أكثر استضاءة وثقافة وعلمًا وخلقًا وتطورًا على كل المستويات. وأن الأمر بهذا الشكل يبعث أولًا على الشعور بالفجاجة والسخف، وإخلالًا لأبسط القواعد المنطقية للإيمان، فالإيمان يستدعي بداية قيمته من دعوته، ومن نصه القدسي، وسيرة نبيه، فقيمته في ذاته، قيمة داخلية، وليست من مقارنته بآخر، أما الأنكى في الأمر، فهو أن تتم مقارنة الإلهي بالإنساني، لإبراز قيمة الإلهي إزاء نقص الإنساني، في تلك الحال ستكون ظالمة لكليهما: الإلهي والإنساني، فالإلهي لا يُقارن بغيره، كما أن مقارنة الإنساني به فداحة في التجني على الإنساني بما لا يُقارن مع الإلهي. وقد فطن (الدكتور طه حسين) إلى ذلك الأمر وعمد إلى إيضاحه في كتابه [الأدب الجاهلي] مبينًا مدى تهافت الفكرة الشائعة حول جاهلية العرب قبل الإسلام، وكيف أن تلك الفكرة أرادت تصوير العرب كالحيوانات المتوحشة، لإبراز دور الإسلام في نقله الإعجازي هؤلاء الأقوام المتوحشين، فجأة ودن مقدمات موضوعية، إلى مشارف الحضارة، فجمعهم في أمة واحدة، فتحوا الدنيا وكونوا إمبراطورية كبرى. هذا بينما القراءة النزيهة لتاريخ عرب الجزيرة في المرحلة قبل الإسلامية تشير بوضوح، إلى أن العرب لم يكونوا كذلك وفي تطورها الإنساني، أما الركون إلى عقائدهم لتسفيههم، فهو الأمر الأشد فجاجة في الرؤية، فيكفينا أن نلقي نظرة حولنا، على الإنسان وهو في مشارف قرنه الحادي والعشرين، لنجده لم يزل بعد يعتقد في أمور هي من أشد الأمور سخفًا. وتطرق القمني إلى معارف العصر، فالمطالع لأخبار ذلك العصر المنعوت بالجاهلي، في كتب الأخبار الإسلامية ذاتها، سيجد في الأخلاق مستوى رفيعًا هو النبالة ذاتها، وسيجد المستوى المعرفي يتساوى تمامًا مع المستوى المعرفي للأهم من حولهم، وأن معارفهم كانت تجمع إلى معارف تلك الأمم معارفهم الخاصة. فقط كان تشتتهم القبلي وعدم توحدهم في دولة مركزية، عائقًا حقيقيًا دون الوصول إلى المستوى الحضاري لما جاورهم من حضارات مركزية مستقرة، وهو الأمر الذي أخذ في التطور المتسارع في العصر الجاهلي الأخير نحو التوحد في أحلاف كبرى، تهيئة للامع العظيم الآتي في توحد مركزي ودولة واحدة كبرى. وعدد القمني ببراعة مظاهر التطور الحضاري المتسارع في شبه الجزيرة العربية حتى العصر الجاهلي الأخير. فعلى مستوى المعارف الكونية، كان لدى العرب تصورات واضحة، تضاهي التصورات في الحضارات حولهم: فالأرض كرة مدحاة، والسماء سقف محفوظ، تزينه مصابيح هي تلك النجوم، وفيه كواكب سيارة، اطلقوا عليها (الخنس الجواري الكنس). أما على مستوى المعارف الدينية، وكانت سمة عصرها، وهي المنحولة عن عقائد الرافدين القديمة ومصر القديمة وبلاد الشام وفلسطين، وجاء تفصيلها مجملًا في مدونات التوارة، فهو الأمر الذي كانت تعرفه جزيرة العرب. ويذكر القمني أن العربي كان حريصًا على تقديم معارفه وثقافته شعرًا، وإن نثرها حرصًا على الجرس الموسيقي فيها، مما يشير إلى رهافة في الحس وارتقاء في الذوق، ويسرد نماذج عديدة من ذلك النثر. ويلقي القمني الضوء على دور الأحداث العالمية فيما جرى من تحولات داخل جزيرة العرب، حيث كان تحول طرق التجارة العالمية إلى الشريان البري المار بمكة قادمًا من اليمن متجهًا نحو الإمبراطوريتين، عاملًا مؤسسًا لتغير أنماط الإنتاج الاقتصادي في الجزيرة، التي أخذت تنحو نحو التجارة كعماد أساسي للاقتصاد، وما تبع ذلك من تغيرات في البنى الاجتماعية، التي أخذت بدورها في التحول النوعي عن الشكل القبلي القائم على المساواة المطلقة بين أفراد القبيلة، إلى تفكك ذلك الشكل بتراكم الثروة في يد نفر من افراد القبيلة دون نفر آخر، الشكل الطبقي الذي فجر الإطار القبلي، لصالح تحالفات مصلحية بين أثرياء القبائل المختلفة، وكان الناتج الطبيعي لتفاوت توزيع الثروة، ظهور شكل مجتمعي جديد على جزيرة العرب. لترصد لنا متب الأخبار الإسلامية أهم الشرائح المجتمعية الجديدة، على خريطة النظام الطبقي الطالع، مقابل الطبقة المترفة من أثرياء تجار العرب. وإعمالًا لجدل الأحداث أخذ الفارق الطبقي بالاتساع السريع والهائل، ليصبح سواد العرب من الفقراء المستضعفين، يعملون في رعي الأنعام والفلاحة وتجارات البيع البسيط، يسكنون الخيام والعشش والأكواخ الحقيرة. وفي ضوء الحاجة لليد العاملة في خدمة آلة الاقتصاد الجديد، بدأت بلاد العرب تعرف النظام العبودي. ومع النظام العبودي انتشرت عادة التسري بالإماء، فكان للرجل أن يهب أو يبيع او ينكح أمته أو يجعلها مادة للكسب بتشغيلها في البغاء، ثم يأخذ ناتجهن المولود ليُباع بدوره وعندما جاء الإسلام حرم البغاء، ولكنه أبقى على نظام ملك اليمين ضمن ما أبقى عليه من أنظمة الجاهلية وقواعدها المجتمعية، لكنه رغب في العتق وحض عليه. ومع التطور الرتيب البطيء للقوى المنتجة، نتيجة للتعددية والتشظي القبلي، تواضع العقل العربي على إلقاء تفاسير ميتافيزية، لما يجابهه من ظواهر طبيعية، يحاول بها تبرير ما يحدث حوله، وهو ما اصطلح بعد ذلك على تسميته بالأساطير بين العرب أنفسهم، خاصة بين الطبقة المثقفة من أثرياء تجارهم، وهو ما يعلن عدم قناعة مستبطنة بتلك التفاسير، التي أُدرجت ضمن أخبار السالفين وأنبياء الأمم وقوادهم تحت عنوان واحد يجمعها هو (الأساطير). ويروي القمني تطور هذه الأساطير التي كانت بدائية بسيطة بساطة حياة البداوة، مثل الأساطير التي نشأت حول ظاهرة الأمطار وغيرها. ومع النزوع نحو توحد قومي وديني تحت ظل إله واحد، ارتفع العرب بذلك الإله عن المحسوسات، ونظروا إلى إلههم ساكنًا السماء في قصر عظيم تحفه حاشية من الملائكة. كذلك لم يجد العرب في تميز بعض الأشخاص إلا سمات خارقة، نسبرها إليهم أحيانًا انبهارًا وأحيانًا تمجيدًا كما حدث من [تأبط شرًا] و [سيف بن ذي يزن]، وهو ما يشير إلى نزوع جديد نحو أساطير البطولة للجاهلية في عصرها الأخير، لتصنع رمزها القومي العربي، وهي تنحو نحو التوحد الآتي في جزيرة العرب. وحول مكانة المرأة في جاهلية العرب الأخيرة، اختلف الباحثون إزاء ما بأيديهم من معطيات تتضارب أشد التضارب، وتتناقض إلى حد عدم الالتقاء أبدًا. فذهب الباحثون إلى طريقين على ذات الدرجة من التضارب والتناقض. وفي هذا الصدد يقول القمني: لا يحله (التناقض) إلا رؤية تاريخية موضوعية، فقد عاش العرب في قبائل متعددة موجودة جنبًا إلى جنب في زمن واحد، ولكن في مناطق مختلفة، وهي تتداخل معًا، ففي مكة جمع شكل المجتمع القبيلة إلى جوار الواقع الحضري، وطريقة العيش ووسائل الكسب، من رعي وغزو إلى استقرار زراعي، إلى تجارة، وهي أمور لها أثرها الذي يجب أخذه في الاعتبار عند مناقشة وضع المرأة في الجاهلية. وكان نشوء الطبقية عاملًا أساسيًا في تحديد وضع المرأة، فكان هناك الإماء، والحرائر، وكانت الحرائر تتمتع بمنزلة سامية، يخترن أزواجهن، ويتركهن إذا أساءوا معاملتهن، ويحمين من يستجير بهن، وكن موضع فخر الأزواج والأبناء، بعكس أبناء الإماء الذين كانوا يستحيون من ذكر امهاتهم.. وفي كتابه [النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة] صدر 1999، ودراستة المطولة باسم مدخل إلى فهم الميثولوجيا التوراتية، تناول الدكتور سيد القمني الأساطير التي بُنيت عليها التوراه بالبحث والتنقيب عن جذورها ومراميها التاريخية والحضارية. وأثبت بالحقائق العلمية كذب إدعاءاتهم، وكيف كتب مؤلفوا التوراه أخبارهم وتاريخهم من وحي ما سمعوا وعرفوا عن أخبار المصريين القدماء وانتصاراتهم وملاحمهم المثبوته تاريخيًا والتي تؤكدها المدونات الفرعونية والآثار الباقية في مصر وحولها، والشاهدة على كذبهم وافتراءاتهم وهوان مؤلفاتهم. ويفند القمني إدعاءات الكيان الصهيوني وحلمهم المزعوم بإقامة إسرائيل الكبرى (دولة الأجداد!!) على أرض فلسطين.
دائمًا ما كانت آراء الدكتور سيد القمني الجريئة سببًا في تعرضه للهجوم الشديد من التنظيمات الوهابية، التى وصلت لحد إهدار دمه، في حال عدم تراجعه عن كتاباته، بجانب قرارات من الأزهر (بصيغته الوهابية) بمنع ومصادرة عدد من أعماله، ومنها كتاب [رب الزمان] وغيره. وقد صاحب فوز سيد القمني بجائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 2009، موجة استنكار من الوهابيين حول استحقاقه لهذه الجائزة، فقام الداعية الوهابي الشيخ يوسف البدري برفع دعوى قضائية ضد كل من وزير الثقافة فاروق حسني وأمين عام المجلس الأعلى للثقافة على أبو شادي وشيخ الأزهر، بسبب فوز الدكتور سيد القمني والدكتور حسن حنفي بجائزة الدولة التقديرية لهذا العام، وهو ما اعتبره البدري إهدارًا للمال العام لأنهما من وجهة نظره يسيئان إلى الذات الإلهية وإلى الإسلام. ورغم عشرات الأحكام التي انتصر فيها القضاء المصري لحرية الإبداع والتفكيروكانت موضع فخر وإعتزاز للمصريين، إلا أن الهيمنة الثقافية الظلامية الوهابية لم تترك مجالًا إلا وأصابته، فكانت مطالبة [هيئة المفوضين] بمجلس الدولة المصري، بسحب جائزة الدولة التقديرية من الدكتور سيد القمني. وجاء في حيثيات قرار هيئة المفوضين الذي كان أقرب إلى بيان (لجماعة دينية) أو (محاكم التفتيش)، حيث ذكر أن: “جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية وما تمنحه من مقابل مادي مقرر من أموال الشعب (…). وبالتالي، من حق هذا الشعب ألا تُهدر أمواله على من لا يستحقها بدلًا من انتفاعه بها في صورة خدمات عامة، وما إلى ذلك من أوجه مشروعة، بعيدة كل البعد عن المارقين عن أحكام الله وتعاليمه… قرار منح القمني هذه الجائزة (…) جاء مجاملة لتوجه إلحادي كانت تستخدمه الدولة لمحاربة التيار الإسلامي… ليس من شأن هذه الهرطقات أن تكون إضافة للعلوم الاجتماعية التي هي جزء ومكون أساسي يُبنى عليه منح الجائزة التقديرية”. فكلمة [هرطقات] كنا نظن أنها انتهت مع العصر الذي كان المفكرون فيه يُحرقون بوصفهم سحرة. ومن هنا، تقدم المحامي والقيادي السابق في جماعة الإخوان الوهابية ثروت الخرباوي، ورفع دعوى طالب فيها بسحب الجائزة من صاحب كتاب [الحزب الهاشمي] بحجة إساءته إلى القرآن والسنة النبوية. وهو ما أكده قرار مفوضي الدولة، مستنداً إلى تقرير مجمع البحوث الإسلامية، ليقضي بأن: “إبداعات الكاتب الفكرية خالفت القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وشككت في نسب بعض الأنبياء، وطالت بالازدراء بعضهم الآخر، وتطاولت بالألفاظ على الذات الإلهية”. وفي حوار تلفزيوني على شاشة قناة الجزيرة الفضائية في برنامج الاتجاه المعاكس (تم بثه في السابع عشر من فبراير 2004) في حوار مع الوهابي الإخواني كمال حبيب طرح الدكتور سيد القمني آراءه حول تغيير المناهج التعليمية الإسلامية، وأوضح القمني أنه يطالب بتغييرها منذ عام 1996 وذلك قبل أن تصبح مطلبًا أمميًا عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001، وأضاف أن: “الثقافة الإسلامية التي تشجع العنف يجب أن تتغير، بالأميركان أو من دونهم لأنها تفرز الإرهاب”. وأوضح أن هناك نصوص معينة في المناهج السعودية من وحي الفكر الوهابي تشجع على الإرهاب وتكفير الطوائف والمذاهب الإسلامية الأخرى ويورد القمني هذه الأمثلة: في ثاني ثانوي صفحة [37] نرى النص التالي: “الفرق المخالفة من جهمية ومعتزلة وأشاعرة وصوفية قلدوا من قبلهم من أئمة الضلال فضلوا وانحرفوا وهي فرق ضالة”، ويوجد نص آخر في كتاب التوحيد ثالث ثانوي صفحة [126] نصه: “الاحتفال بمناسبة المولد النبوي تشبُّه بالنصارى”، وفي كتاب التوحيد ثالث ثانوي صفحة [41] يوجد النص التالي: “محبة الله لها علامات منها العزة على المخالفين والكافرين وأن يظهروا لهم الغلظة والشدة”. وهو نفس ماسبق ذكره في في منهج التوحيد المقرر على ثاني متوسط في السعودية صفحة [105] وأول ثانوي صفحة [12]. وأضاف القمني أن مستوى التعليم في المدارس العربية: “في قاع بحر الظلمات” لأن طريقة التعليم هي الحفظ والتلقين وحتى العلوم الغربية يتم تدريسها بطريقة إسلامية. وأن الإسلام كتاب مفتوح للكل وليس من حق أحد أن يعتبر منهجه الإسلامي صحيحًا ويعتبر الآخرين على خطأ. وأوضح القمني أنه لا خلاص إلا بأخذ المناهج الغربية في التفكير على كل المستويات بدون انتقاء. وتصاعدت لهجة مقالات القمني ضد الإسلام السياسي وكان أكثر هذه المقالات حدة ذاك الذي كتبه عقب تفجيرات طابا في أكتوبر 2004، وكان عنوانه: “إنها مصرنا يا كلاب جهنم!”، هاجم فيه شيوخ ومدنيي الإسلام السياسي، وكتب: “أم نحن ولاية ضمن أمة لها خليفة متنكر في صورة القرضاوي أو في شكل هويدي تتدخل في شؤون كل دولة يعيش فيها مسلم بالكراهية والفساد والدمار، ويؤكد وجوده كسلطة لأمة خفية نحن ضمنها. بعد هذا المقال، سخرت جماعة الإخوان الوهابية حسب القمني نافذتها على الإنترنت المسماة بـ [المصريون] لتكفيره والتحريض على قتله منذ تاريخ حصوله على جائزة الدولة التقديرية وحتى اليوم، إضافة إلى قناة [الناس] الفضائية التي يعتبرها تمثل الجانب النظري والفكري للإرهاب الدموي، ويقول القمني إنها طالبت بقتلي فورًا بيد من يستطيع من المواطنين، كما أعلن يوسف البدري (شيخ الحسبة في مصر) على القناة كما يصفه القمني: “أنني أسب الله والنبى محمدًا في كتبي وهو ما أعتبره تحريضًا صريحًا على قتلي”. كما تلقى القمني العديد من التهديدات، وأُهدر دمه في 17 يونيو 2005 حيث أصدر تنظيم القاعدة في العراق رسالة تهديد وتم نشر رسالة التهديد على موقع عربي ليبرالي على الإنترنت باسم [شفاف الشرق الأوسط]، جاء في هذه الرسالة التى نُشرت مقتطفات منها المقطع التالي: “اعلم أيها الشقي الكفور المدعو سيد محمود القمني، أن خمسة من أخوة التوحيد وأسود الجهاد قد اُنتدبوا لقتلك، ونذروا لله تعالى أن يتقربوا إليه بالإطاحة برأسك، وعزموا أن يتطهروا من ذنوبهم بسفك دمك، وذلك امتثالًا لأمر جناب النبي الأعظم صلوات ربي وتسليماته عليه، إذ يقول “من بدل دينه فاقتلوه”. على أثر هذا التهديد كتب القمني رسالة اعتزاله التي جاء فيها: “تصورت خطأً في حساباتي للزمن أنه بإمكاني كمصري مسلم أن أكتب ما يصل إليه بحثي، وأن أنشره على الناس، ثم تصورت خطأً مرة أخرى أن هذا البحث والجهد هو الصواب وأني أخدم به ديني ووطني، فقمت أطرح ما أصل إليه على الناس متصورًا أني على صواب وعلى حق فإذا بي على خطأ وباطل، ما ظننت أني سأُتهم يوما في ديني، لأني لم أطرح بديلًا لهذا الدين ولكن لله في خلقه شؤون!!”. ولم يستمر القمني طويلًا، وعاد إلى الكتابة وشاشات التلفزيون، مواصلًا مشروعه نحو قراءة موضوعية للتاريخ الإسلامي. وفي سياق متصل أعربت سبع عشرة منظمة حقوقية في بيان مشترك عن إدانتها الشديدة، لاستمرار نهج قضايا الحسبة الدينية التي تهدف في الأساس إلى القضاء على حرية التعبير، الديني والفكري والسياسي والفني، مطالبة الحكومة المصرية أن تتخذ موقفًا واضحًا من هذه القضايا التي “باتت سيفًا مسلطًا على جميع أصحاب الرأي ووسيلة للشهرة والتربح من المتاجرين بالدين، مؤكدة تضامنها الكامل مع الكاتب سيد القمني في مواجهة ما وصفته بالهجمة الشرسة التي تشنها ضده بعض المؤسسات الدينية التي وصلت لحد المطالبة بسحب الجنسية المصرية عنه.
في رده على موقع رصيف 22 أكد الدكتور سيد القمني أن الحرب ضد مَن يرفع السلاح لا بد منها ويجب أن تكون مستمرة، لكنها الحرب الأرخص والأقل تكلفة. أما الحرب الأطول وقتًا والتي تنهي الموضوع برمته، فهي الحرب الثقافية التي تشنها العلمانية لمصلحة المبادئ والقيم الإنسانية الراقية، وليس لمصلحة دين من الأديان. الحرب الجارية الآن هي حرب بين الزمن الماضي وبين المستقبل الآتي، والزمن الماضي لا يريد أن يمضي بل يريد أن يمسك المنطلِق نحو المستقبل ليستعيده إلى حظيرته مرة أخرى. وحرب الزمنين يجب أن تكون حربًا ثقافية. وفي رده حول سؤاله: هل ترى أن واحدة من أزمات الفقه الإسلامي الكبيرة أنه أغفل مسؤولية الفرد عن فعله أمام الله لمصلحة مسؤولية الفرد عن فعله أمام الناطقين باسم الله؟ أجاب القمني: هم يقولون إن لدينا قانونًا وشريعة تصلح لكل زمان ومكان، وهذا كذب ومحاولة للسيطرة على الناس باسم الله. والله ليس في الموضوع بل هم. هم المكانة الاجتماعية والعيش الرغيد والمال السعيد وحياة شهريار. لن يتنازلوا عن ذلك بسهولة، لذا يتحدثون باسم الله طوال الوقت. ليس لدينا قانون وضعه الله في قرآنه. في علاقة السماء بالأرض، التي امتدت طوال ثلاثة وعشرين عامًا نزل خلالها القرآن، كانت تصدر تشريعات اليوم وتُنسخ غدًا ويأتي تشريع جديد بدلًا عنها وتمضي شهور وأيام ويوضع تشريع ثم يُلغى ويأتي بديل عنه. ولم يكن المسلم يعرف ما عليه أن يفعل أو لا يفعل صباحًا لأنه قد يُفاجأ بأن ما كان قانونًا خلال السنة الماضية قد تغير وجاء بدلًا عنه قانون جديد. وظل الأمر على هذه الحالة حتى وفاة النبي، فلم يجدوا بين أيديهم قانونًا واضحًا تشريعيًا يتم تطبيقه. الآيات الناسخة والمنسوخة بجوار بعضها البعض في المصحف العثماني. ورجل الدين يستخدم ما يعجبه منها… وعندما ننظر إلى الحدود في القرآن لا نجدها تتجاوز خمسة حدود. واليوم لم تعد العقوبات البدنية مجدية إطلاقًا، يعني ماذا يعني أن تقطع يد إنسان؟ هذا كان أيام زمان، أما الذي يقول به اليوم فيكون إرهابيًا فورًا. يجب أن نفكر جيدًا، فهذه العقوبات كانت خاصة بزمانها ومكانها والدنيا تغيرت. لقد أخذوا “سلطات ربنا” وجلسوا مكانه بدليل أن الشريعة التي يقولون إنهم يريدون تطبيقها والتي تتضمن حدودًا خمس، أصبحت في الفقه تتضمن اثني عشر ألف حد ومسألة، مما يعني أنها شريعة وضعية وُضعت في القرنين الثالث والرابع الهجريين. فلماذا يصبغونها بالصبغة الإلهية وهي وضعية ومَن كتبها واجتهد فيها بشر؟ يجب أن يقتنعوا بأنه ليس هنالك شيء اسمه صالح لكل زمان ومكان بالمطلق. القرآن المكي الجميل مثل: {لا تزر وازرة وزر أخرى}، و{لست عليهم بمسيطر} و{مَن شاء فليؤمن}، {لكم دينكم ولي دين} يعلمك الحرية حتى وأنت أمام النبي، هذا كلام جميل صالح لكل زمان ومكان بالفعل. المشايخ لا يقولونه إلا للغربيين الذين لا يحتاجونه ويطبقون علينا هنا القرآن المدني بحجة ناسخ ومنسوخ. أنا لا أتصور أن هنالك مخرجًا لهذه البلاد للحاق ربما بآخر خيط تجره آخر قاطرة نحو الحضارة الإنسانية، خاصة بعد الانهيار المرعب الذي حدث في العهد المباركي، انهيار أخلاقي، وانعدام ضمير، وأن يكون هذا معممًا بهذا الشكل في الوطن، يعطينا درسًا هامًا جدًا وهو أن العلمانية المكروهة منهم، أينما طُبقت نجحت وحافظت على كرامة الإنسان ودينه ومسكنه وأمانه، وأينما طبقوا تشريعاتهم حل الخراب. الكلام واضح أمام العيون، واختر يا شعب. وحول سؤاله عن: كيف نلحق بركب الحضارة؟. أجاب القمني: سأختصر ما يجب أن يتخلى عنه المسلمون كي يستطيع بعض أحفادهم اللحاق بعالم الحضارة. أولاً، عليهم التخلي عن فكرة أن الله خلقهم باعتبارهم خير أمة أُخرجت للناس وأنهم مميزون في كل شيء، وأنهم وحدهم أهل الله والوحيدون الذين سيدخلون الجنة… لو أن الله يحبك واختارك لتدخل الجنة وأنت سيد العالمين، ما كان ليفتح كنوز علمه للغرب والعالم الخارجي البعيدين عنك وتعتبرهما أنت أهل شرك وكفر بينما أغلقها عليك أنت. وإذا المسألة إرادة إلهية، فإن الله أراد أن يغلق عليك علمه ومعرفته كي تعيش عيشة البدائية والوحشية والتخلف… الأمر الثاني هو أنه يجب فهم معنى: {ما فرطنا في الكتاب من شيء}، هذا لا يعني أن هذا الكتاب فيه علوم كل شيء، لأنه كتاب تحدث إلى بشر عاشوا منذ ألف وأربعمائة سنة، وتحدث إليهم على قدر عقولهم، بدليل أن عمر بن الخطاب غير بعض ما ورد فيه من فروض كفرض سهم المؤلفة قلوبهم، وألغى حلال متعة الحج ومتعة النساء، وفي عام الرمادة أوقف تطبيق الحدود… {ما فرطنا في الكتاب من شيء} تعني لم نفرط في شأن من شؤون الدين مثل الإيمان والعبادات.. إلخ وليس من شؤون الدنيا، أنتم أعلم بشؤون دنياكم. لذا فأكبر ضرر أصاب هذه الأمة منذ موضة “الإعجاز العلمي في القرآن” ومصطفى محمود وزغلول النجار وغيرهما جعلنا نظن أن القرآن أثبت الإنجازات العلمية بينما مَن ابتكرها هو الغرب الكافر! لو أحببت الله بحق ستكتشف قوانينه، وحينذاك يفتح عليك باب علمه “وتبقى زيهم، مش تقعد تدعي في الجامع وتقول الموت للناس دي”، كما قالوا لموسى: {اذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون}. ثالثًا، فكرة أن القيامة غدًا ونسيان عيش الحياة. عش وانجز وانتج هنا. لم يعد أحد ليخبرنا عما بعد الموت. بالطبع مطلوب منك أن يكون لديك رادع داخلي ديني، لكن لا أن يحكمك طوال الوقت. رابعًا، العلمانية لم تقتل متدينًا، ولم تمنع دينًا، ولم تحرم دينًا بدليل أن المسلمين يهاجرون من بلاد الإسلام إلى بلاد الشرك وديار الكفر ليتمتعوا هنالك بحرية العبادة؟.
وفي مقابل هذا السيل من الاتهامات للمفكر الكبير سيد القمني من أنطاع ومرتزقي الوهابية، نجد قامات فكرية مصرية وعربية ترد له اعتباره فها هو أنيس منصور يقول: ما أحوج الفكر المصري الراكد والفكر العربي الجامد إلى مثل قلمك وطبيعي أن يختلف الناس حولك فليكن! ولكنك قلت وأثرت وأثريت وفتحت النوافذ وأدخلت العواصف وأطلقت الصواعق. ويقول الكاتب العراقي جاسم المطير: القمني صرخة كبرى سوف لا ينضب لها عطاء من نور وتنوير وستكون هذه الصرخة الاحتجاجية في رحاب الرعب السلفي قادرة على فتح أبواب الحرية الدينية وقادرة على إدانة يد القمع الفوضوي الإسلامي مثلما ستكون قادرة على إدانة السلطة التي تتراكم فيها عفونة العصور المظلمة وكهوفها. وتقول الروائية الأردنية ليلى الأطرش: تهديد سيد القمني ورضوخه الذي قد يُفهم في سياق قوة الاحتمال والظروف الخاصة به، فقرة في سلسلة اغتيال الفكر والقتل وإقامة الحسبة وخنق الحريات باسم الدين. ولكن الرضوخ يعني مزيدًا من بطش هذه الجماعات وإعادة المجتمعات إلى كهوف الظلام والجهل، ونزع كل مكتسبات التنوير والفكر الحر وحقوق النساء. ويقول الكاتب المصري كمال غبريال: لقد فضح القمني طيور الظلام، والذين يقدمون لها الحَب والماء والأعشاش، والذين يصفقون لتحليقها كغمامة سوداء فوق رؤوسنا، كما فضح غير المبالين الذين يقتصر دورهم على التناسل، أو وضع مزيدًا من البيض المرشح لفقس المزيد والمزيد من طيور الظلام. ويقول الدكتور سعد الدين إبراهيم: القمني مفكر إسلامي كبير، مبدع مجتهد. ويقول الكاتب الكردي طارق حمو: سيد القمني أبدع وأنجز وأسس مدرسة فكرية بحثية عملاقة، سلط في مشغله المتواضع، الضوء الساطع على نصوص التراث الصدئة، ففككها وأعادها إلى زمانها ومكانها الأولين، مستعينًا لإنجاز كل ذلك، بإخباريات وسير هذا التراث نفسه. ويقول الكاتب الفلسطيني أحمد أبو مطر: إن إعلان التضامن مع القمني مسالة مبدئية، وبيانه الراضخ لتهديدات الإرهابيين، لن يلغي دور أفكاره هذه، فسوف تظل حافزًا تنويريًا. ولمفكرنا الكبير العديد من الكتب والدراسات والمقالات في المناطق الشائكة في التاريخ الإسلامي، منها كتاب الحزب الهاشمي وتأسيس الدولة الإسلامية: صدر 1989، دولة الرسول: صدر 1996، حروب العرب قبل الإسلام1996، النبي إبراهيم والتاريخ المجهول: صدر 1996، رب الزمان: صدر في 1997، السؤال الآخر: صدر 1998، قصة الخلق/ منابع السفر والتكوين: صدر 1999، النبي موسى وآخر أيام تل العمارنة: صدر 1999، الأسطورة والتراث: صدر 1999، الثورة التاريخ التضليل: صدر 2000، الإسلاميات: صدر 2001، الإسرائيليات: صدر 2002، الجماعات الإسلامية رؤية من الداخل: صدر 2004، شكرا بن لادن، أهل الدين والديمقراطية: صدر 2005، دراسة باسم مدخل إلى فهم الميثولوجيا التوراتية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى