كتاب وشعراء

عربة الجاز…..بقلم أشـــــرف غــــازي

جلس شيخٌ كبير بجواري في عيادة طبيب الأسنان، تبدو عليه سمات الوجاهة والأصل العريق، كنت قد رأيته عدة مرات في زياراتنا السابقة للطبيب، ويا لسوء حظه من تخذله أسنانه فيصبح زبونًا دائمًا لدى أطباء الأسنان.
لم يتغير المشهد في ساحة إنتظار المرضى عن سابقه، اللهم إلا الرجل الذي يجلس بجواري، كان حزينًا بالحد الذي يجعله مقروء الوجه والطالع، والكَيسُ الفطِن هو الذي يقرأ في الوجوه آيات السعادة وعلامات الحزن، عيناه تلمع وهو يغالبها حتى لا تخذله بدمعة تزيد من وجعه. لم أطق صبرا ووجدتني أقول له:
– هل استاذنا بخير؟
فنظر لي بوجه منكسر بائس ثم قال بصوت خفيض:
– الخير..هذا المُقام الذي ننشده وكلما راودنا الشعور بأننا نلّناه تفَلّت منا!
كم أصابني الدوار من عمق رد الرجل، ورؤيته، فزادني الأمر اصرارا على محاولة التسرية عنه مهما كلفني الأمر، فقلت مباغتًا:
– وما الذي أهمَّك واغفر لي فضولي وتطّفلي.
فقال دون تردد وكأنه قد وجد ضالته في التنفيس:
– وانا قادم في طريقي رأيت (عربة جاز) قديمة، هي فنطاس حديدي في مؤخرته صنبور ضخم، كانت ملقاة على أحد جوانب الطريق، كانت مُهملة وقد نال منها الصدأ حتى تآكلت، لكن ذكرياتي مع تلك العربة لم تتآكل بل محفورة بالوجدان كالوشم. كانت العربة لرجلِ إسمه ماهر، لا زلت أذكر صورته وهيئتة وهو يمسك مفتاح حديدي كبير ويضرب به العربة ضىربات متتابعة لتُصدر صوتا متناغما ما إن يسمعه أحد إلا ويعرف أنه (عم ماهر بتاع الجاز) وما كان يراه طفلا إلا ويصرخ من الهلع، حتى انه كان وسيلة تأديب وتهذيب تستغلها الأمهات في ردع أبناءهم عن إقتراف المصائب، إلا أن الرجل كان يمتلك قلبا ناصع البياض، وتلتف من حول عربته نسوة القرية ليشترين ما يلزمهن من وقود. وفي المساء كان الجميع يُشعل (الوابور الجاز) لطهي الطعام، وإذا ما إنقطعت الكهرباء تجد الأسرة تلتف حول (لمبة الجاز) في مشهد ساحر خلاب ودفء لا يضاهيه دفء، بينما يشدو صوت أم كلثوم من المذياع الذي يعمل يعمل بالحجارة:
أسال روحك أسأل قلبك قبل ما تسأل ايه غيرني
انا غيرني عذابي في حبك بعد ما كان أملي مصبرني.

قد يظن البعض أني قد اعتراني الجنون، فما تلك العربة القديمة المتهالكة الملقاة على جانب الطريق لتترك بداخلي كل هذا الحزن، ولكن بنظرة متأنية سنجد أن كل طقوس حياتنا قد تبدلت وما تلك العربة إلا رمزا لما آلت إليه أوضاعنا من ضِعة وهوان، وبتنا ننعم برفاهية لا مثيل لها، وأصبح الغاز الطبيعي في كل بيت إلا أن الطعام فقد مذاقه، وكذلك الناس من حولنا فقدوا ملامحهم، وأصبحت الوجوه بيضاء والقلوب قاتمة سوداء إلا ما رحم ربي.
لقد أصبحت العربة أثرا بعد عين، ونحن يا بني أصبحنا آثارً تمشي على قدمين، و ما للآثار إلا أن تُركن وينظر إليها الناس من بعيد، فقيمتها في عصر بائد.
أنتهى الرجل من كلامه وكم تمنيت له قمت بإحتضانه لأعلن له تضامني وبأن الرجل الذي يحفل بماضيه وذكرياته يُنصفه حاضره بكل تأكيد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى