فيس وتويتر

سعيد خليل

كتب :مصطفي بيومي

عندما يُذكر اسمه وسط حشد من محبي السينما المعاصرين، لن يعرفه إلا أقل القليل منهم، لكن هؤلاء أنفسهم يطالعون وجهه حاد الملامح في عدد غير قليل من الأفلام فلا يشعرون بأنهم يجهلونه. المعروف المجهول،المشهور المنسي، الممثل المتمكن القادر على تجسيد الشخصيات المتنافرة المتناقضة بقدر واحد من الاحترافية والإتقان، فهو الشرير عضو العصابة والضابط ووكيل النيابة والمحامي والطبيب والمريض بالسل والمخرج السينمائي والشيال في محطة السكة الحديد والقس والموظف الصغير. يقنعك في هذه الأدوار جميعا كأنه يعايش مهنته الموروثة التي لا يعرف سواها، ويورطك دائما فتصدقه وتندمج في العالم الذي يصنعه.
بعض أدوار سعيد خليل متناهية الصغر، لا تتجاوز المشهد أو المشهدين، وبعضها الآخر محوري على الصعيدين الكمي والكيفي، وفي حالاته جميعا يفرض حضوره وتتطلع إليه العيون. يُقال أحيانا إنه من عتاة شريري السينما، ولا صعوبة في البرهنة على صحة المقولة، وقد يذهب آخرون إلى أنه في طليعة كتيبة الأخيار الطيبين، ولن يعدموا أدلة شتى للتأكيد على صواب رؤيتهم، لكن أدواره الأعظم والأنضج بعيدة عن الدائرة المغلقة لثنائية الخير والشر، وهو مايتجلى في “الوحش” و”يوميات نائب في الأرياف” على وجه التحديد.
……………………
عبد العال في “ريا وسكينة”، 1952، و”إسماعيل يسن يقابل ريا وسكينة”، 1955، نموذج دال على خصوصية الشر عند سعيد خليل. أسلوبه في الإبداع التمثيلي ليس نمطيا يراهن على حدة الوجه وتجهمه للكشف عن الشراسة والقدرة على ممارسة العنف وإلحاق الأذى، ذلك أنه “رجل” شر تهيمن عليه “امرأة” وتقوده وتتحكم فيه. من هنا تتجلى صعوبة أن تكون شريرا تابعا، تتعرض للتوبيخ المهين ويطاردك الاتهام بأنك لست رجلا. الخوف يسكن عبد العال ويدفعه إلى التوتر المزمن، وفي مشهد دال تلتهمه ريا، نجمة إبراهيم. تطيح بالكوب الذي يمسكه، وتصرخ فيه بقسوة تزلزله :”النسوان اللي زيك ما يشوروش.. يسمعوا وينفذوا وبس”.
أن تكون شريرا خائفا مرتعشا على هذا النحو ليس بالفعل الميسور في ساحة التمثيل، وكم هو مقنع وجه سعيد في التعبير عن ثنائية الشر والخوف التي تلازمه وتضفي على أدائه مذاقا خاصا، ولا يختلف أسلوب الأداء في الفيلم الثاني إلا بالقدر الذي تفرضه المعالجة المغايرة.
في عدد غير قليل من الأفلام، ينخرط سعيد عضوا فاعلا في عصابات إجرامية، ومن ذلك على سبيل المثال شخصية مخيمر في “صراع في النيل”، 1959، “البوليس السري”، 1959، “النشال”، 1963، “الرعب”، 1969، “أصعب جواز”، 1970، أما “باب الحديد”، 1958، فإن تبعية جاد الله مطلقة للمعلم الطاغية شيخ الشيالين أبو جابر، عبد العزيز خليل.
عبد العزيز من أساطين الشر الكلاسيكي في تاريخ السينما المصرية، ورفضه الحاسم لفكرة نقابة الشيالين التي يتحمس لها أبو سريع، فريد شوقي، تنبع من حرصه على الزعامة المنفردة غير المقيدة. أتباعه أقرب إلى عصابة ترفض التغيير، وجاد الله أقرب مؤيديه وأكثرهم تبعية. إذعانه بلا ضفاف، وشره يتجسد في التآمر الذي لا يتوقف.
……………….
الشر في الأفلام السابقة جميعا يطول الآخرين، لكن إبراهيم أفندي في “لوعة الحب”، 1960، نموذج إنساني متفرد، والشر عنده كامن في إدمان الخمر الذي يفسد حياته ويفضي إلى موت الزوجة الطيبة المخلصة قهرا وكمدا.
مع ظهوره الأول، يشكو قلة النوم والتوتر المترتب على المشاجرات الزوجية المتكررة. سكير يلازم الحانة، وتزوره ابنته الطفلة فلا يبدي اهتماما ببكائها وتوسلاتها، ثم يغادر معها ساخطا متبرما يردد في استياء :”حاجة تقرف”.
انقطاعه عن الحانة يدفع صديقه محمود أفندي،أحمد مظهر، إلى التساؤل:
“- أمال فين إبراهيم أفندي؟
– مراته حرجت عليه من الخروج.. جه هنا أول الشهر ودفع نص ماهيته لمانولي وبعدها ما شفتوش”.
هل يعني الامتناع عن التردد على الحانة توقفه عن الإسراف السفيه ووصوله إلى محطة التوبة والاستقامة؟. الإجابة بالنفي، ذلك أنه يعود إلى سابق عهده بعد أن يدفع ثمن الإدمان فادحا:
“- أنا المرة اللي فاتت لما جيت من السفر سألت عليك قالولي الجماعة منعوه من الخروج.. لازم النهارده بقى الست مسافرة.
– مسافرة؟ الست تعيش انت”.
يسرف في الشراب باكيا بعد موتها لينسى إساءاته السابقة، ويعرف الندم بعد فوات الأوان :”ما عرفتش قيمتها إلا بعد ما ماتت”.
إدمان الخمر، بكل ما يترتب عليه من تداعيات سلبية، شر إجرامي من طراز مختلف عن ذلك الذي يقترن بعضوية العصابات وتأييد المستغلين الراغبين في الاستحواذ والهيمنة. في مرحلتي الاستهتار والندم، يقدم سعيد خليل أداء راقيا صادقا متزنا، ينجو من لعنة المبالغة والتشنج. تحولات الوجه، والتحكم في طبقات الصوت، والانفعالات الداخلية المكتومة التي تتسرب إلى المشاهد كأنه يراها، أدوات معتمدة في ترجمة وعي الممثل الكبير بالشخصية عبر مرحلتيها المختلفتين.
………………………
ثمة أدواربمثابة العلامات التي لا تُنسى في مشوار سعيد السينمائي،وفي الصدارة شخصية شوقي أفندي في “الوحش”، 1954، وعبد المقصود أفندي في “يوميات نائب في الأرياف”، 1969.
للوهلة الأولى يبدو شوقي أفندي شجاعا جسورا من دعاة مقاومة الطاغية الوحش عبدالصبور، محمود المليجي، ويتجلى ذلك في خطابه الإنشائي الحماسي الذي يدعو إلى التصدي والمواجهة :”يا ناس اتقوا الله.. هو الخوف ها ينفعكوا ولا يمنع عنكم الضرر.. عيب على شنابكم يا رجالة”.
شيء ما في انفعاله يوحي بالافتعال والكذب، ودعوته إلى التخلي عن الخوف قوامها عبارات فضفاضة منمقة، كأنه ينتظر التصفيق والهتاف :”الراجل الجبان تحل عليه اللعنة.. ويجوز عليه الذل للأبد”.
أهو صادق مخلص جاد في مقولاته الوعظية الزاعقة هذه؟. مع ظهور الوحش يتحول المسارجذريا، ويكشف وجه الممثل القدير عن خليط من الارتباك والذعر والتلعثم الذي لا افتعال فيه. لا شك أنه يستحق سخرية الوحش اللاذعة، التي تلقي مزيدا من الضوءعلى طبيعة الشخصية :”سكت ليه؟.. لا أسكت الله لك حسا يا شوقي أفندي.. اخطب.. اخطب يا جريء وخليهم يتكلموا”.
شوقي ظاهرة صوتية، وبراعة سعيد لافتة بصدقها العفوي في الانتقال المباغت الذي يكشف عن التهافت والضعف . الادعاء والجشع والخوف مفاتيح شخصيته، ويعي سعيد خليل كيفية التجسيد النفسي والحركي لمثل هذا التكوين غير التقليدي. تحريضه للفلاح هنداوي على التعاون مع الشرطة للإيقاع بالوحش ليس خالصا لوجه العدالة والتخلص من الطاغية، فهو يضيف بتلقائية كأنه يقرر حقيقة متفقا عليها :”وما تنساش كمان المكافأة خمسميت جنيه.. مين اللي ها ياخدها غيرك وغيري”.
يباهي شوقي ببطولته الوهمية الآمنة، التي يدفع هنداوي ثمنها موت ابنه، وسرعان ما يحل عليه الذعر االكاشف عن جوهره بعد تيقن الفشل. يرتعش باحثا عن الأمان والحماية، ولعل زوجه هي الأقدر على تعريته وفضح تناقضاته والكشف عن حقيقته. ترفض ما يدعيه من شجاعة وشهامة، وتصارحه بأن الطمع في المكافأة دافعه الوحيد.
إلى ما قبل قتله بلحظات، على يدي الوحش المتنكر، يتشبث شوقي بازدواجية الخوف الكامن وادعاء الشجاعة، أما عن التغيير المفاجىء الذي يطرأ على وجه سعيد خليل عند اكتشاف وجود الوحش في ملابس الخفير، فإنه يكشف عن براعة ممثل فذ لا يمثل الخوف ولا يدعيه.
…………………..
باشكاتب النيابة عبد المقصود أفندي، في “يوميات نائب في الأرياف”، ذو حضور لافت مؤثر. قريب من رجال الهيئة القضائية والشرطة وليس منهم، وبعيد عن الفقراء الضائعين المهمشين ولا ينجو من مصائرهم في ظل الخلل والقدرة على التلاعب بالقانون.
يقف خانعا أمام رئيسه الشاب وكيل النيابة، أحمد عبد الحليم، ويبالغ في تبجيله واحترامه، لكنه يمنح نفسه حق النصيحة بتفتيش سجن المركز لاستكمال الإجراءات الروتينية الشكلية، ويعي بخبرته أن تغيير الحكومة يعني سجناء جددا بلا اتهام، ما يستدعي اتخاذ الإجراء الشكلي لتجنب الإحراج.
القانون عند عبد المقصود “إجراءات ليس إلا”، ووفق نظريته هذه لا يتورع وكيل النيابة عن حبسه عندما تزعم واحدة من الشهود أنه حسين خطيب ريم، وقد يكون بالتبعية متهما في جريمة قتل قمر الدولة علوان. يعرف الوكيل يقينا أن التهمة باطلة، لكن الإجراءات الشكلية تبرر حبسه.
يقهقه عبد المقصود عندما تمسك به المرأة، ثم ينطفيء وجهه بعد توجيه الاتهام والشروع في التحقيق والأمر بالحبس:”انت مش بتقول إن العدالة هي إن الورق يكون مظبوط.. إيه يعني واحد يروح السجن غلط؟.. آدي العدالة بتاعتك وبتاع المأمور يا عبد المقصود أفندي.. دوق!”.
ومن غير البسطاء من أمثاله يتذوقون طعم العدالة التي ترادف الظلم؟.
…………..
يجهل الكثيرون اسم سعيد خليل ويعرفون وجهه المعبر وأداءه التمثيلي العفوي الصادق السلس، وكم في التاريخ السينمائي المصري من مشهورين مجهولين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى