رؤى ومقالات

نسيم قبها يكتب ….اليمن ومخططات التقسيم

أعلنت الحكومة السعودية يوم 26 تشرين أول/أكتوبر 2019م عن وثيقة أو مشروع اتفاق بين الحكومة اليمنية “الشرعية” والمجلس الانتقالي الجنوبي. ويقضي هذا الاتفاق بتقاسم السلطة بين الطرفين ضمن حكومة وحدة تشكل مناصفة من ٢٤ وزيرًا بعد أن تعود الحكومة الحالية لعدن خلال سبعة أيام من تاريخ توقيع الاتفاق النهائي.
كما تقضي الوثيقة دمج التشكيلات العسكرية للطرفين في هياكل وزارتي الدفاع والداخلية، مع إشراك أعضاء المجلس الانتقالي الجنوبي في وفد الحكومة “الشرعية” في المفاوضات الرسمية التي ترعاها الأمم المتحدة بخصوص اليمن.
وقد نصت الوثيقة كذلك على إشراف السعودية والتحالف العربي مباشرة على كل بنودها في التنفيذ, مما سوف يدفع كثيرين لرفضها أو التحفظ عليها. وبالفعل فقد كانت ردة الفعل من قبل وزير الداخلية أحمد الميسيري متخوفة جدًا من تبعات هذه الوثيقة ونتائجها الكارثية على اليمن ما لم يتم استيفاء شروط معينة. وختم الميسري بالقول: لا نريد حكومة يتحكم بأحد شقيها السفير السعودي بينما يتحكم ضابط إماراتي بالشق الآخر؛ لن نقبل بأي اتفاق مذل ولن نعود إلى عدن إلا بحدنا وحديدنا.
وبالفعل لم تمضِ أيام ثلاثة على تصريح وزير الداخلية حتى تعرض يوم 29 تشرين أول/أكتوبر هو ووزير النقل إلى محاولة اغتيال في شبوة شرقي البلاد. وهذا إن دل على شيء فإنه يدل على أن أميركا وعملاءها في السعودية والإمارات يريدون تمرير هذا الاتفاق بعد أن فشلوا جميعًا في تمكين المجلس الانتقالي الجنوبي بقوة السلاح من السير نحو فصل الجنوب بعد أن تصدت لها قوات “الشرعية”.
لقد صممت أميركا هذا الاتفاق، الذي جاء بعد أن فشلت محاولة الانقلاب الإماراتي نسبيًا في عدن، بالتزامن مع المشاورات التي حصلت بين أميركا والحوثيين. ورغم نفي الحوثي لذلك، لكن ما أعلنت عنه السعودية من هدنة مع حركة أنصار الله والدخول في حوار معهم يؤكد أن ما يجري حاليًّا من “مصالحة” بين الحكومة “الشرعية” والمجلس الانتقالي الجنوبي برعاية سعودية هو جزء من عمل أكبر تعد له أميركا.
إن الوثيقة السعودية المقترحة والتي تعطي تمثيلًا واعترافًا بالمجلس الانتقالي الجنوبي هي شبيهة بما وقع من قبل في صنعاء من اعتراف بسلطة الحوثي في الشمال. ومن ثم فإن الاتفاق الذي يجري الإعداد له بشكل رسمي في قادم الأيام هو حلقة جديدة في مسلسل تفكيك “الشرعية” والدولة اليمنية، بعد أن سيطرت القوات التابعة للإمارات ممثلة بالحزام الأمني وقوات المجلس الانتقالي الجنوبي على أهم المواقع في الجنوب.
وإمعانًا في التضليل أعلنت قوات الإمارات يوم 27 تشرين أول/أكتوبر عن إعادة انتشار قواتها في عدن تحت قيادة السعودية التي سوف تشرف على الوضع الأمني في اليمن. وكان واضحًا أن هذا الإعلان قد جاء للالتفاف على رفض اليمنيين لتولي الإمارات بشكل واضح ملف عدن بخاصة والجنوب بعامة. فجاء تكليف السعودية بتولي هذا الأمر، مع أن هذا لا يعني أن السعودية ليست ملطخة اليدين مع الإمارات في قتل المسلمين وفي مشروع تقسيم اليمن عبر الأعمال العسكرية السابقة وعبر هذه الصيغة السياسية الجديدة.
لقد جاءت هذه الوثيقة أيضًا استباقًا لما كان يجري الإعداد له بعد انقلاب عدن الأخير وما تلاه من تداعيات أدت إلى ارتفاع أصوات جنوبية كثيرة تندد باختطاف المجلس الانتقالي المدعوم إماراتيًّا لتمثيل الجنوبيين وقضيتهم. وقد رأت تلك الأصوات أن الإمارات توظف قضية الجنوبيين لخدمة مصالحها التي باتت مكشوفة أكثر من أي وقت مضى.
وأخيرًا جاءت هذه الوثيقة كحركة استباقية أميركية على ما كان يجري الإعداد له من قبل عدد من المكونات والفعاليات الجنوبية منذ الحركة الانقلابية الأخيرة للإمارات. فقد دخل العديد من الأطراف الجنوبية وحتى الشرقية في مشاورات داخلية وخارجية (مع بريطانيا وروسيا) من أجل إنشاء كيان سياسي جنوبي يكون بديلًا عن المجلس الانتقالي الجنوبي ويجمع أغلب أطياف القوى الجنوبية السياسية والعسكرية.
وبالفعل فقد تم الإعلان يوم السبت 19 تشرين أول/أكتوبر 2019 عن تشكيل مجلس الإنقاذ الوطني الجنوبي كرد فعل على محاولة الانقلاب الذي نفذه المجلس الانتقالي الجنوبي على الحكومة “الشرعية” بالعاصمة المؤقتة عدن. وقد وصف ممثلو مجلس الإنقاذ الوطني الجنوبي تكتلهم بأنه “تكتل سياسي جديد يهدف إلى وقف التدهور المستمر في مختلف جوانب الحياة اليمنية بسبب الدور الذي يقوم به التحالف السعودي الإماراتي وأدواته المحلية في جنوب اليمن”. وبدا واضحًا هنا أن هذا المجلس يعد مناهضة صريحة للسعودية والإمارات ورفضًا لتواجدهما العسكري في اليمن وتدخلهما في شؤون البلاد الداخلية. وبالإضافة إلى ذلك فإن مجلس الإنقاذ الوطني يكسر ادعاء المجلس الانتقالي الجنوبي الموالي للإمارات بتمثيل الجنوب وتسويق ذلك للعالم.
وأمام وجود مجلس الإنقاذ لم تجد أميركا بدًا من تعديل خطتها بالعمل على إدماج المجلس الإنتقالي الجنوبي ضمن حكومة الشرعية لمنع عزله من قبل أغلب المكونات السياسية والقبلية في الجنوب التي أربكت حسابات ومشاريع السعودية والإمارات بالنيابة عن أميركا بخصوص أية تسوية مستقبلية تخص جنوب اليمن وشماله. ومما يعمق من إرباك خطة أميركا هو أن مجلس الإنقاذ الوطني قد جمع طيفًا واسعًا من التمثيل السياسي والقبلي بدافع “إنقاذ ما يمكن إنقاذه من البلاد بعد أن أصبحت مستباحة” بسبب “ما فعله تحالف الرياض – أبوظبي” وفق ما جاء في بيان الإعلان.
وبناءً على ما تقدم تسعى أميركا من وراء هذه الوثيقة إلى إبعاد موضوع الانفصال عن الواجهة ومنع المجلس الانتقالي الجنوبي من طرح موضوع التقسيم مرحليًا ريثما يتم تهيئة البنية التحتية له. وتحت شعار إنهاء الحرب الأهلية وإنقاذ أطفال اليمن من الموت والجوع والمرض تحركت القوى الدولية في أميركا وفرنسا وبريطانيا لتمرير أجندة التقسيم والانفصال في اليمن تحت رعاية الأمم المتحدة. ومع ذلك فلا يجب أن ننسى بأن الحرب الأهلية قد صنعتها أمريكا عن طريق عملائها في السعودية والإمارات وإيران بدعم كل دولة منهم لأحد أطراف الصراع.
الوثيقة السعودية والاتفاق الذي يُراد تمريره سوف يوفر للقوى الانفصالية في الجنوب فرصة ذهبية كي تبني لنفسها بنية تحتية داخل مؤسسات الحكومة “الشرعية” بأجهزتها الأمنية والعسكرية. وعندما تقوم بتثبيت نفسها وتحين ساعة الانقلاب تتحرك لفصل الجنوب وهي محتفظة بطابع أو ختم “الشرعية” في سيناريو يشبه ما قام به الحوثيون في أيلول/سبتمبر 2014. ويجب أن لا ننسى هنا أن أهم زعماء الانفصال في الجنوب كانوا في السابق جزءًا من الحكومة “الشرعية” مثل عيدروس الزبيدي الذي كان محافظ عدن وأحمد بن بريك الذي كان محافظ حضرموت وهاني بن بريك الذي كان وزيرًا في الحكومة اليمنية.
وحيث أن الاتفاق يقضي بتشكيل لجنة مشتركة بقيادة السعودية لتنفيذ بنود الاتفاق فهذا يعني أن هذه الوثيقة هي عملية انقلاب سياسي مغلفة بإطار قانوني بعد أن تمت السيطرة على أهم المواقع في عدن من خلال التشكيلات المسلحة الموالية للإمارات مع إبقاء مظاهر بسيطة لقوى “الشرعية” من أجل ذر الرماد في العيون. وهذا هو الفخ الذي يجري نصبه لقوى “الشرعية” الممسكة بالسلاح في الجنوب بعد أن صار واضحًا أن عبد ربه منصور هادي جزء من هذه المؤامرة الكبرى على اليمن.
والفخ هنا هو أن يحصل المجلس الانتقالي الجنوبي على صفة “الشرعية” بعد أن يكون جزءًا من الحكومة الجديدة التي يُراد إنشاؤها. وهذا الأمر يمكنه من الانفصال في وقت لاحق كما فعل الحوثيون الذين تم دمجهم في صنعاء ضمن حكومة هادي ثم قاموا بالانقلاب عليه واستأثروا بحكم الشمال. وعندما أعلنت السعودية وقتها عن عملية “عاصفة الحزم” قامت بتثبيت “شرعية” الحوثي في صنعاء والشمال وهي الآن تقوم بـ”شرعنة” القوى الانفصالية في عدن والجنوب عبر إدخالها في مفاوضات الحل النهائي.
لقد كان من المفروض أن يتم التوقيع على اتفاق الرياض بين الحكومة اليمنية والمجلس الانتقالي الجنوبي يوم الخميس 31 تشرين أول/أكتوبر 2019 لكن التصعيد الأخير في سقطرى واشتباكات أبين قد حالت دون ذلك.
وفي الختام فإن هذه الوثيقة التي تريد أميركا تحويلها لاتفاق الشراكة ما هي سوى صيغة جديدة لتفكيك الشرعية من الداخل وهي تمهد لتقسيم اليمن وتكريس انفصال الجنوب عن الشمال على المدى المتوسط تنفيذًا لمشروع أميركا المعروف باسم “الشرق الأوسط الكبير”.
إن ما فشلت أميركا في إنجازه بقوة السلاح في جنوب اليمن تريد أخذه بقوة المكر والخديعة. ذلك أن عدن بخاصة وجنوب اليمن بعامة يمثلان أهمية كبرى بالنسبة لأميركا بسبب موقعهما العسكري فائق الأهمية على البحر الأحمر والمحيط الهندي وباب المندب. وإذا ما نجحت أميركا في تمرير هذا الاتفاق فإنها تكون قد اقتربت خطوة نحو مشروعها في تقسيم السعودية وصنع دولة الإحساء التي سوف ترعاها إيران نيابة عن أميركا. وهذه الدويلة سوف تكون مقدمة لفصل دولة نجد ذات الطابع العلماني المتوحش عن دولة الحجاز ذات الطابع الإسلامي المحافظ.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى