كتاب وشعراء

محمد عبد الباسط عيد يكتب :أحببت امرأ القيس،

كان امرؤ القيس وحيدًا إلى أقصى حد، ويبدو لي أن كل مبدع يشعر بالوحدة بشكل أو آخر، بصرف النظر عن اختلاف مجالات الإبداع، هكذا كان اينشتين، وجمال حمدان، وأقطاب التصوف الأكابر. تدفعك الوحدة إلى التماس الرفقة التي تشبهك، فتغدو شاعرًا أو عالمًا أو قديسًا… !!

—-

الإنسان كائن محيّر، ومسكين أيضًا..!!

—-

في معلقته الخالدة كان امرؤ القيس يتحدث بصيغة التثنية، يقول : قفا نبك …!! بدت الصيغة محيرة فعلا، وتساءل المثقفون: إلى من يتحدث الشاعر ؟ من الرجلين اللذين يطلب منهما الوقوف للبكاء؟ ولماذا لا يكون الطلب لجماعة مثلا؟

—–

كان امرؤ القيس يشق طريقًا للشعر غير مطروق، ويبحث عن لغة تقاوم الوحدة، ولا شيء يمكنه أن يفعل ذلك أكثر من صيغة المثنى؛ التثنية تدفئ القلب وتذيب الوحشة، ولعلها أنقى ما في العربية من صيغ التصريف؛ فأنت تجرد من ذاتك شخصا آخر وتحادثه، فتغدو به ثانياً، لا شيء أقرب إليك من ذاتك، ولا شيء أرحم بك من صيغة المثنى..!!

……

لقد كان امرؤ القيس شاعرا عاشقا، تماما كما كان عمر بن أبي ربيعة، ولا يجب أن تفهم العشق هنا بمعنى تبتل الرجل في حب امرأة واحدة، العشق هنا بحث لا نهائي عن الاكتمال، ورغبة عارمة في التركيب واكتشاف العالم. أرجو ألا تتوقف كثيرا إزاء أسماء النساء في شعر الرجلين، الشعر لا يؤخذ بمثل هذه الخفة.

كان الرجلان يقاومان قلقا وجوديا لم ينته إلا باستقرارهما النهائي في باطن الأرض..!

—–

يعرف الناس معلقة امرئ القيس، ويعرفون فاطمة التي ترجاها الشاعر أن تتلطف في هجره، وأنشد فيها بيته الذي يقطر حزنا عذبا:

أغرّك مني أن حبك قاتلي؟
وأنك مهما تأمري القلب يفعلِ؟

هذا البيت حزين جدا وعذب أيضا، ولكن لماذا تريد فاطمة أن تهجر الشاعر وهي تعلم أنها تملك قلبه، وأن بمقدورها أن تأمره فيطيع كيف شاءت؟

تبدو المسافة شاسعة بين ما يبحث عنه الشاعر المضطرب وما تبحث عن فاطمة، ولعل هذا ما يجلوه لك البيت التالي:

وما ذرفَتْ عيناك إلا لتضربي
بسهميك في أعشار قلب مقتّل

لقد بكت فاطمة بشدة، ورمت قلب الشاعر بسهميها (أي العينين) في أجزاء القلب، لقد أصيب القلب، ولم يعد قادرا على التحمل. لقد نبه امرؤ القيس الشعراء من بعده إلى عين الحبيبة، وستغدو العينان مرتكزا جماليا في دائرة العشق ما دام الشعر والشعراء..!

—–

لقد كان قلب امرئ القيس مقتّلا ممزقًا، مرتهنًا بعشق لا يعرف المدى، والقلب لا يكون على هذا النحو إلا إذا كان قلب عاشق، لا يعرف الاستقرار ولا الراحة، وكأنه يعيش دائما “على جسر من التعب”.

أحببت امرأ القيس، وأحببت معلقته المذهلة، وتعاطفت كثيرا مع هذا القلق الوجودي الذي يطل عليّ من كل بيت فيها….

فالسلام عليك أيها السيد….!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى