كتاب وشعراء

تُمطر في حنجرتي فتغرق ذاكرتي.. شعر هيثم الأمين/تونس

كثيفة أنت، داخل البيت، هذا المساء
كثيفة كبخار الماء المتصاعد من بحيرة ساخنة
و كثفية كضباب يتوّج قمّة جبل يستريح داخل غابة مطيرة
كثيفة أنت، هذا المساء
في كلّ البيت،
في حنجرتي،
في عيوني
و في ذاكرتي.
تجلسين القرفصاء، كعادتك، على أريكة الصّالون،
تقلّبين القنوات التلفزيّة كما تقلّبين درج جواربك بحثا عن جورب يكتم أسرار كلّ الأصابع
و في نفس الوقت، تقلّبين منشورات أصدقاءك على الفيس بوك
كما تقلّبين تلّة من الروبافيكيا، في سوق سيدي بومنديل، بحثا عن قطعة جميلة نسيتها العيون.
أنا، واثق جدا، من أنّ الريموت كونترول و هاتفك الأحمر الذكيّ
سعيدان جدا
و ارتعاشة ذقني، غيرة منهما، لأنّ أناملك لا تداعبه، دليل قاطع.
الثلّاجة الفارغة، الموقد المتثائب
الفرن الذي لم ينبس بوجبة منذ مدّة،
تلّة المواعين المتّسخة في مغطس المطبخ
و الأرضيّة الزّلقة
كلّ هذا،
يجعلك كثيفة في المطبخ
تمسحين و تغسلين
تطبخين و تدندنين
تحرّكين، تسخّنين، تمسحين عرقك، تسحبين الأواني، تعيدين الأواني،
تتابعين سيلان الوقت على صدر الجدار
و تشتمين.
في الحمّام، أنت، هنا، بكثافة أيضا
و أنت تتشاجرين مع شعرك المبلّل
و أنت تلعبين، كطفلة، برغوة الصّابون
و أنت تُبَسْتِنين حدائقك السرّيّة على حسب مزاج شهوة موعودة
و أنت تكفرين بأنوثتك بسبب آلام عادتك الشّهريّة التي لا تكون إلّا مؤلمة
و كثيفة أنت، جدّا، في الحمّام
كلّما وقفتُ أمام المرآة لأحلق ذقني
فأراك بجانبي
و أنت تطبعين قبلة على عنقي
و تضحكين !
في غرفة النّوم، لا شيء يخلو منك
قوارير العطر و المرايا،
السّتائر و أنت تختبئين خلفها حتّى لا أجدك أو لأجدك،
كومة الغسيل التي لم أجد وقتا لطيّها، ربّما، منذ أسبوعين
و الخزانة التي لم تفتح لك ذراعيها مذ غادرت
فرمت، في وجهي، كلّ أغراضي
و احتكرت كلّ أغراضك كأمّ ثكلى لا تفارق ملابس طفلها.
و جلدك المحبوب للملاءة.
جلدك الطّازج كالخضار،
المتفتّح كزهور بريّة
و الطّاعن في الغواية
ينام على السّرير.
السّرير
الذي لم يعد يستمتع بصرير مفاصله مذ انتهت لعبتنا.
في الفيراندا
تتدلّين على أعمدتها كياسمينة خمريّة اللون
و تفوحين.
كلّ هذه الكثافة في البيت
تجعلك تتكثّفين في حنجرتي أكثر
تتكثّفين إلى أن تصيري صوتا
فتُمطر، حنجرتي، اسمك
و تُمطرُ عيوني
فتغرق، بك، ذاكرتي.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى