ثقافة وفنون

أشرف الريس يكتب عن: ذكرى رحيل محمد القصبجى

هو ‘‘ قصب الألحان الجميل ‘‘ و ‘‘ أسطورة الموسيقى ‘‘ و ‘‘ أستاذ التجديد الموسيقى ‘‘ و ‘‘ العبقرى ‘‘ و ‘‘ عاشق الست ‘‘ الموسيقار العِملاق ( محمد أحمد القصبجى ) الشهير بمحمد القصبجى ذلك الفنانُ المُبدع الذى يُعد أحد أعلام الموسيقى العربية و من أهم الرواد فى مجال التلحين و أستاذ مُبدع تخّصص فى آلة العود و برع فيها بشكلٍ جعله يستحقُ لقب ملِك العود علاوة على اقتران اسمه بعمالقة الغناء من أبناء جيله اضافة لتميُزه بأسلوبه الفريد فى الجمع بين الحَداثةِ و الرومانسية فى شكلٍ جديد على الموسيقى العربية ماجعله يُضحى صاحب مدرسة خاصة فى التلحين و الغناء بعد أن استطاع أن يصنع من ألحانه نَسيجاً مُتجانِساً بين أصالة الشرق و الأساليب الغربية المُتّطورة و برغم كُل ماسبق فقد ارتضى الجلوس على مِقعده الخشبى وراء « الست » مُحتضناً عوده لسنواتٍ طوال مؤثراً أن يكون عُضواً عازفاً فحسب ! كباقى أعضاء فرقتها !! على الرغم من أثراءه الموسيقى العربية بالعَديدِ من الأعمال التى كانت سبباً جوهرياً فى تطّورها و تلحينه لنُجوم الطرب فى عصره بداية من مُنيرة المهدية و صالح عبد الحى و نجاة على مُروراً بليلى مُراد و أسمهان و انتهاءً بأم كلثوم التى ظلت مُحتفظة بمقعده خالياً خلفها على المسرح ! تقديراً لدوره العظيم و مشواره المُضيئ معها و الحق يُقال أن حياة القصبجى كانت مليئة بقليلٍ من الورود و كثيرٍ من الأشواك و هُما الذان رسما مشواره الفنى و للأسف الشديد لم تُمهِله الحياة بأن يستمتع ببريقِ الشُهرة التى حققها خلال سنواتِ رحلته الفنية التى يُداوم كُل مَن كَتَبَ عنها بعدم ذكرها سوى بجُملة ( الذى أحب أم كلثوم ) ! و كأن الكتابة عن هذا الرجل العظيم لا تجوز سوى بالمُرور من بوابة هذه المعلومة القابلة للتأويل ! علاوة أن محمد القصبجى لم يكُن الوحيد من أبناء جيله مِن الفنانين أو غيرهم الذين عاشوا فى ” خيالهم ” فكم من عاشقٍ هام حُباً فى خياله بمحبوبٍ لم يره من قبل و كم من مّحبوبٍ راقبَ هذا الحُب من بعيد مُستمِتعاً به و بغيره و مُستسيغا بشُعور ” ملكة النحل ” مُحلِقاً فى السماء يزهو بتقدُم جيشٍ مُقاتلٍ من العُشاق و هذا ليس ضربنا من التخمين فالنُطالع ما كتبه الناقد والصحفى” طارق الشناوى ” فى كتابه ( أنا و العذاب و أم كلثوم ) عن عدد من أشهر عشاق الست لا علاقة لها بحُبهم سوى استفادتها بفُنونهم لإنتاج شهد الملكة و كاتب هذه السُطور لن يَدخل ليُفتش فى قلب أحد و لن يحكُم على مشاعر أحد لكن بنظرة سريعة على هذا الزمن الذى ابعتد لدرجة تكفى لرؤيته جيداً سيّتفق على أن فقرة الأربعينيات و الخمسينيات مِن القرن الماضى يُمكن أن نُصّنِفها بـ ” زمن الرومانسية ” زمن الحُب الصامت و اللوعة المّكتومة و النيران التى تشتعل فى الحشا فتّخُرج أشعاراً و ألحاناً و كما حرقت هذه النيران القصبجى حرقت أيضاً زكريا أحمد و حرقت أحمد رامى تماماً كما احتَرَقَ العقاد و عَشراتٍ غيره بحُب الأديبة ” مى زيادة ” .. ولد القصبجى فى 15 / 4 / 1892م بحى الدرب الأحمر بمُحافظة القاهرة وسط عائلة موسيقية حيث والده أحمد القصبجى المُدّرِس لآلة العود الذى لاحظ هواية نجلِه الفنية فقرَرَ أن يُعلمه بعض عُلومِها و أن يُدّربهُ على عزفِ العود خلال أوقاتِ فراغِه و هو ما نمّا لدى القصبجى الإبن حُب الموسيقى منذ صِغره و تعلّق بها لكنه لم يَحِدْ عن طريق العلم فالتّحق بالكُتاب و حفظ القرآن الكريم ثم انتقل إلى الأزهر الشريف و درس اللغة العربية و المَنطق و الفِقه و التّوحيد ثم التّحق بعد ذلك بدار المُعلمين و تخرّج منها مُعلِماً و كان عليه بعد ذلك أن يلتحقَ بالسِلك التعليمى و لكن هوايته للموسيقى لم تبرُد فى صَدرِه بعد اشتغاله عَقِبَ تخّرُجِهِ فى مجالِ التعليم فلم ينقطِع عن الموسيقى بعد مواعيد العَمَل ما كان له الحافزُ الكبير ليتمّكن من إتقان أصول العزفِ و التّلحين و قد ساعَدَتْ ثقافته العامة على خوضِ غِمَار هذا المَجال باقتدارٍ مّلحوظ و بدأ يعمل فى مجالِ الفن على فتراتٍ حتى قرر ترك مِهنة التّدريس و التفرُغ تماماً للعمل الفنى بعد نظمِه و تلحينه لأغنية يبدأ مطلعها بـ ” ما ليش مليك فى القلب غيرك ” و تسجيلها بصوت المُطرب ” زكى مراد ” والد الفنانة ليلى مراد و الذى يُعد أحد مشاهير المُطربين فى ذلك الوقت و بعد نجاحِ الأغنية الساحق التفت المُطربون له و من هُنا بدأت رحلة القصبجى الإحترافية فى عالمِ الفن فكان أول عَمَلٍ تلحينىٍ احترافى له هو دور ( وطن جمالك فؤادى يهون عليك ينضام ) من كلمات شاعر عصرِه الشيخ ” أحمد عاشور ” ثم أنضم القصبجى بعدها إلى تخت ” العقاد الكبير ” عازف القانون بعد أن أعجب به هو و المرحوم ” مصطفى بك رضا ” رئيس نادى الموسيقى الشرقية و فى عام 1920م اتجه القصبجى اتجاهاً آخراً فى تلحين الطقاطيق و التى كتبها ” الشيخ يونس ” منها طقطوقة ” بعد العِشا يحلى الهزار و الفرفشة ” و طقطوقة ” شال الحمام حط الحمام ” حتى جاء عام 1923م ليستمِع القصبجى إلى السيدة أم كلثوم و كانت تنشُد قصائد فى مدح الرسول و أعجب بها كثيراً و كان هذا بمثابة كارت الحظ لها بعدما كان القصبجى هو ” المُكتشِف الحقيقى لصوتها ” فَفَتح لها أبواب الشُهرة مُنذ بدء التلحين لها عام 1924م و بما قدمه لها بعد ذلك من ألحانٍ مُتَطّورة جذبت آذان الناس و تطلّعت معه إلى عالمٍ جديد من الفن الراقى بداية مِن تلحينه لها أغنية ” آلـ إيه حلِف مايكلمنيش ” و ظل القصبجى مُنذ ذلك اليوم و حتى آخر يوم فى حياته يُعاون كوكب الشرق كما يُنسب له أيضاً فضل التجديد لأغانيها فى المونولوج الغنائى بداية من ” إن كنت اسامح و أنسى الآسية ” إلى ” رق الحبيب ” و قد كان فى كل هذه الألحان و غيرها و باعترافِ أبرز الموسيقيين و النُقاد هو زعيم التجديد فى الموسيقى المِصرية و فى عام 1927م كّوَنَ القصبجى فرقته الموسيقية التى ضّمَتْ أبرع العازفين أمثال ” محمد العقاد ” للقانون و ” سامى الشوا ” المُلقب بأمير الكمان و كان هو عازف العود فى الفرقة و لم يتوقف عند الشكل التقليدى لفرقة الموسيقية العربية فأضاف إلى فرقته آلة ” التشيلو ” و آلة ” الكونترباص ” و هُما آلتان غربيتان استطاع القصبجى أن يُدمِجهُما وسط الآلات الشرقية دون أدنى نشازٍ موسيقىٍ كما كان يتنبأ له العقاد و الشوا ! كما قدم القصبجى ألحاناً عديدةً للسينما و كان من أكثر المُلحنين إنتاجاً طيلة 50 عاماً و قدم أيضاً للمسرح الغنائى الكثير فقدم لمُنيرة المهدية مسرحيات ” المّظلومة ” و” كيد النسا ” و” حياة النُفوس ” و” حَرَمْ المُفتِش ” و لنجيب الريحانى ثلاثة ألحان فى أوبريت ” نجمة الصباح ” كما قام أيضاً بتلحين الفصل الأول من ” أوبرا عايدة ” الذى غنته أم كلثوم فى فيلمها ” عايدة ” فى أوائل أربعينيات القرن الماضى و الحقُ يُقال أن القصبجى كان يُطور فى ألحانه و لكن فى إطار المُحافظة على النغمة الشرقية الأصيلة و قد تتّلمذ على يديه فى العزفِ على العود موسيقار الأجيال ” محمد عبد الوهاب ” و أخذ منهُ مّدرسة دمج الشرقى بالغربى و لكنه مع الأسف الشديد اتجه فيما بعد للتّغريب و لم يسر على خُطى أستاذه ! .. أحَبَ القصبجى ثومة حُباً كبيراً تحدث عنه معاصروه و لكن سومة لم تُبادله هذا الحُب مُطلقاً ! و كان يعلم ذلك جيداً ! و مع ذلك لم تتأثر علاقته بها فظل يلعبَ دوراً كبيراً فى حياتها الفنية على الرغم أن تلك العِلاقة الإنسانية و الفنية الرائعة لم تخلُو من بعض الخِلافات منها تعاون القصبجى مع ” أسمهان ” و ” ليلى مراد ” ما أثار غيرة سومة الفنية التى تعودّت أن تكون هى الصوت الذى يُغنى ألحانه فقط !! و قد ردّت ثومه على القصبجى بتعاونها مع المُلحن الشاب حينها ” رياض السُنباطى ” أحد تلاميذ القصبجى ثُم جاء الخلاف الثانى بين الست و قصب بعد فيلم “ عايدة ”عام 1942م و قدمّت فيه ثومة أوبرا “ عايدة ” من تلحين القصبجى و السُنباطى و لكن فشل الفيلم جماهيرياً انذاك أدى لابتعاد سومة عن القصبجى حيت اعتبرته مسؤولاً عن هذا الفشل السينمائى الذى لم تّعتده سومة بعد أن كانت أفلامها تُحقق نجاحاً جماهيرياً غير مسبوق و هو ما جعلها ترفُض التعاون معه فى فيلمها اللاحق “ سلاّمة ” ! و ظلت سومة ترفض ألحان القصبجى بعد ذلك لحناً بعد الآخر ! حتى توقف هو عن التلحين تماماً لأنه لم يتخيل أن يُلحن لأى فناناً آخر بعد الست ! و هو السر الذى ذكره لثومة و هو على فراش المرض بعد أن سألته عن توقفه طيلة هذه الفترة و هو ماجعل الدموع تنزل من عينيها لشُعورها بتقديره الشديد لها دون أدنى تقديرٍ منها تجاهه ! و بعد أن تعافى القصبجى ظل على هذا المنوال فارتضى بدور العازف للعود خلف الست رافضاً التلحين لغيرها إلى أن جاء يوم 26 مارس 1966م حيث بروفة أغنية ” الأطلال ” و الجميع فى انتظار قدوم القصبجى ليجلس خلف الست و لكن الإنتظار طال كثيراً لأنه كان قد فارق الحياة قبل ميعاد البُروفة بساعتين عن عُمرٍ ناهز الـ 74 عاماً بعد أن قدّم فيها للموسيقى العربية آثاراً و إثراءاتاً ثمينة و أضاف للموسيقى الشرقية ألواناً من الإيقاعات الجديدة و الألحان السريعة و الجُمل اللحنية المُنضّبطة البعيدة عن الارتجال و بعد أن هَجَرَ التلحين لأكثر من عشرين عاماً و ظل حبيسَ عشق الست الفنى و الإنسانى لسنواتٍ طويلة امتنع فيها عن الزواج بأى امرأة أخرى فعاش ما تبقى له من عُمره يعمل مع أم كلثوم حاملاً بين أضلاعه قرارها كرصاصة لكنها ليست كرصاصات الرّحمة و كم من مّرة أطلق زفرات الألم و آهات العذاب بصوت عالٍ كما حدث فى حواره مع الصحفي اللبنانى ” عدنان مُراد ” الذى نشرته مجلة ” الشبكة ” عام 1955م و حَمَلت كلماته مَرارة تشُعر بها ( انت الذى لا علاقة له بالأمر ) ! و أنت تقرأ بعد عَشَراتِ السنين فما بالك بِصاحبها ؟! و هو الذى بعد رحيله ظلّت أم كلثوم لفترة طويلة تتّحدث عن قيمته و تَجديده الموسيقى حتى بعد وفاته فى آخر حوار إذاعى لها فقالت و هى تبكى إن كل من ينتمى لعالم الموسيقى لابُد و أن يُقدر قيمة القصبجى الفنية لأنه كان فناناً مُبدعاً حتى النُخاع و كُل مَن على الساحة الآن هُم تلاميذٌ له .. رحم اللهُ محمد القصبجى و تجاوز عن سيئاته و أسكنه فسيح جناته .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى