رؤى ومقالات

الحلقة الحادية عشرة من مذكرات المحامي المصري محمود حريز الشريف – الحلقة الثانية من رحلة التشرد ( homeless )

? الحلقة الحادية عشرة من مذكرات المحامي المصري مع المخابرات العامة أيام صلاح نصر.
? – الحلقة الثانية من رحلة التشرد ( homeless )
? يقول الأستاذ محمود عبدالرحمن عبدالقادر:”

? :” لقد كان الشرطي الذي نزل من السيارة ؛ تلوح
في وجهه علامات الشهامة والنبل ؛ وسألني :
لماذا تجلس هنا ؟
? فأخبرته : ” أنني محام بالإستئناف العالي ؛ وعضو
اتحاد المحامين العرب ؛ وأخرجت له مستنداتي الدالة
على ذلك ؛ وأنني أمر بظروف قهرية ستنتهي قريبا ؛
إن شاء الله ؛ واستطردت قائلا:”
? وعلى كل حال فأنا ضيف على أرض حكومة
دمشق وأنتم أهل كرم وشهامة وضيافة :” .

? لم أكد أنتهي من تلك الكلمات القليلة ؛ حتى تفجرت الدماء العربية الحرة في عروق الشرطي ؛
وبدا أنه متعاطف معي ؛ بل وحزين من أجلي؛
ودعا لي بالتوفيق والسداد ؛ وسأل الله أن يإذن
بقرب زوال الغمة .
? لقد شعرت خلال تلك الدقائق التي تكلمت فيها
مع ذلك الشرطي النبيل ؛ أنني أقف مع شيخ من شيوخ العرب ؛ شهامة ونبلا وعزة وكرامة .

? ودعني ذلك الشرطي الشهم النبيل وانصرف ؛
وكان هذا السلوك منه إيذانا بقبول وجودي في
هذا المكان ؛ وفهمته أنا من وجهة نظر أخرى ؛ ظلت
على مدي قرون سمة من سمات المجتمعات العربية ؛
لقد فهمت أنه أدخلني في جواره ؛ أو في جوار
حكومة دمشق ؛ ولذلك فقد شعرت بالراحة والأمان
والاطمئنان ؛ ولم يكن ساعتها قد تبقى على أذان
المغرب سوى القليل ؛
?❣ أقبلت على إعداد الإفطار بما معي من طعام
قليل وفقير ؛ وقضيت تلك الليلة على ذلك المقعد
الخشبي ؛ وعندما استيقظ الصباح شعرت به ؛
فاستيقظت أيضا ودخلت المسجد ؛ وقضيت به
ما يزيد على شهر ونصف ؛ بأمان منحه لي هذا
الشرطي ؛ الشيخ العربي الشهم النبيل .

? والجوار هذا ؛ كان أعظم ما يميز المجتمعات
العربية سواء كان ذلك قبل الإسلام أيام الجاهلية
أم بعد الإسلام ؛ وقد اشتهر : ” أن العرب لا ترد مستجيرا :” .

? ولم يدهشني مجتمع من المجتمعات عند قراءتي
للتاريخ أكثر من المجتمع العربي القاطن في الجزيرة
العربية قبل الإسلام ؛ لأن هذا المجتمع العربي تميز
بعدة صفات وسمات رائعة ؛ لم يثبت أن اتسم بها
مجتمع من المجتمعات عبر التاريخ كله .

? أما عن وصف حياة العرب وعصرهم قبل الإسلام
بالجاهلية ؛ فكان بسبب طيشهم وإقبالهم على سفك
الدماء لأهون الأسباب ؛ لدرجة تشعرك بأن جزيرة العرب كانت ساحة قتال ؛ لا يمكن أن يهدأ فيها صليل
السيوف أو صهيل الخيول المقبلة على الحرب ؛ إنها
أيام العرب ووقائعهم التي سجلتها كتب التاريخ.

? ولم يكن وصف الجاهلية يزيد على معنى الطيش
والتساهل في سفك الدماء.
– فقد قال عمرو بن كلثوم:
ألا لا يجهلن أحد علينا ….. فنجهل فوق جهل الجاهلينا

? وقد امتاز هذا المجتمع العربي بذم الكذب واعتباره نقيصه ؛ كما اشتهروا بالكرم والشهامة
والنبل .
? وقد كان الزواج في عصرهم على عدة أنواع منها
الزواج الذي أقره الإسلام ؛ كزواج النبي صلى الله عليه
وسلم من السيدة خديجة رضي الله عنها .
– فالحرة لا تزني ؛ ولذلك نقول في أمثالنا :” تموت
الحرة ولا تأكل بثدييها :” .
– ونحن حين نقول اتسم المجتمع بكذا ؛ ليس معناه
اتسام جميع أفراد المجتمع بهذه الصفة ؛ ولكن معناه
أنها صفة غالبة .
? ومن هذه الصفات التي امتاز بها المجتمع العربي
وساهمت بصورة ما في نشوب الحروب هي : الوفاء .

– وقد كان الوفاء يدفع العرب إلى الدخول في حرب
من أجل الوفاء بعهودهم ؛ وهذا ما أثبتته كافة
المصادر التاريخية .
– لذلك فلا تستمع لما يروج هنا وهناك من عبارات
هدفها النيل من المجتمعات العربية ؛ من قبيل :”
إذا أردت أن تعرف الخيانة فاسأل عن العرب :” .
لأنها مجرد حرب نفسية لا أكثر .
– والعكس هو الصحيح : فإذا أردت أن تعرف الوفاء
فابحث عن العرب .

? ومن الصفات التي امتاز بها المجتمع العربي
وتسببت في نشوب الحروب ؛ إسراعهم في حماية
من يستجير بهم ؛ فقد كانوا يحمون المستجير
ويمنعونه مما يمنعون منه أنفسهم.
يقول الشاعر :
لا يسألون أخاهم حين يطلبهم
في النائبات على ما قال برهانا

– والعجيب في الموضوع أن الإسلام أقر هذا السلوك
العربي النبيل ؛ بل جعل ذمة المسلمين واحدة فيه ؛
بمعنى أنه جعل صدور الجوار من أفقر مسلم وأضعف
مسلم يتساوى مع الجوار الذي يصدر من أغنى
المسلمين وأقواهم ؛ وجعل صدور الجوار من فرد
واحد ؛ وكأنه صادر من المجتمع المسلم كله ؛ فلا
يحل لمسلم أن ينقض جوارا منحه مسلم آخر .

? وأهم ما ميز المجتمع العربي والعرب ؛ عدم
قبول الذل والإهانة ؛ فلا يسمح العربي لشيء أن
ينال من كرامته وعزته ؛ وإلا سالت الدماء أنهارا .

? والعجيب في الموضوع أننا كنا نمارس الجوار
ونحن أطفال صغار ؛ فكان إذا شعر الطفل الصغير
منا بخطر حصوله على علقة ساخنه من طفل أكبر
منه ؛ احتمى بأي مار في الشارع وأمسك بجلبابه
وقال له :” في حسبك يا عم الحاج :”. وحسبك هنا
بفتح الحاء والسين والباء ؛ ومعناها في حمايتك .

?? ولا عجب في هذا فقد قرأت تصريحا لنقيب
السادة الأشراف يقول فيه :” أكثر من ستين بالمائة
من قبائل الصعيد من أصول عربية ؛ سواء جاءت
مع الفتح الإسلامي أو بعده .
?? ومن المفارقات شديدة الطرافة والعجب
التي حدثت معي ؛ أن أخوالي كانوا ينطقون كلمات
مثل ( كريم – سعيد ) بكسر الحرف الأول والثاني؛
وكلمات مثل ( لحم – نخل ) بفتح الحرف الأول
والثاني .
– ودارت الأيام ولفت ؛ حتى قرأت كتابا يدرس ظاهرة
التطور اللغوي ؛ فإذا به يقول إن نطق هذه الكلمات
بهذه الصورة لغة بني تميم . !!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!!

?? ولأنني كنت أحد قادة قوات ( الشق القبلي)
أي المنطقة القبلية ؛ حيث كنا نقسم القرية لأربعة
مناطق ؛ قبلي وبحري وشرقي وغربي ؛ وكنا نتنافس
في كل شيء بلا استثناء ؛ ومن بين تلك المنافسات
عراكنا في الشوارع .
– ولذلك فقد كان محظوظا ذلك الطفل الذي يستجير
بي من علقة ستحل به من طفل أكبر ؛ فقد كنت
أحميه وأمنحه الأمان ؛ وأضرب الطفل الآخر علقة
ساخنة إذا لم ينصرف سالما ؛ وقرر أن ينال ممن
منحته الجوار والأمان .
?? ولأنني كنت أحب حضور الجنازات ؛ كنت
أحب حضور العزاء في دار مناسباتنا ؛ وكان هذا
العزاء يستمر ثلاثة أيام بلياليها ؛ ويقدم فيه
الطعام والشراب ؛
– وكنت أحب هذه العزاءات كثيرا ، في حالين ؛
إذا كانت في الصيف ؛ وكنت في الوقت ذاته
متشاجرا مع أمي ؛ أو مرتكبا لمصيبة تستوجب غيابي
عن الأنظار.
– ساعتها كنت أنام على الدكك ( جمع دكة ) ؛ وهي
تشبه الكنبة ؛ إلا أن لها قوائما خشبية تسند ظهرك
عليها .
– وكنت أزوغ من البيت وأنام في الهواء الطلق
الجميل ؛ وكأنني صاحب واجب وحزين على
قريبي الميت ؛ وكان أقربائي الكبار يطلبون مني
مغادرة العزاء للنوم في البيت ؛ وكنت أصمم
على المبيت ؛ ولو كان يصح لي الحلف بالطلاق
آنذاك لحلفت أنني لن أترك العزاء .

?? وكنت أعتقد أن شرب الكثير من أكواب
الشاي مفيدا للميت ؛ لأنه كلما زاد عدد الأكواب
زادت الحسنات التي يحصل عليها .

– لذلك كنت لا أرد كوبا من الشاي يقدم إلي؛ فلعل
الميت محتاسا آخر حوسه مع الملايكة ؛ ولعل
هذه الحسنات ستفيده .
– وإذا كان هذا الميت جدعا وطيبا في حياته ؛ وسبق
أن استجرت به فأجارني ؛ ونجاني من علقة منتظرة
كنت أشرب الشاي وأدعو له بالمغفرة .
? وإذا كان غير ذلك ؛ كنت أشرب الشاي أيضا ؛
ولكن لا أدعو له بشيء.
?? وأول عزاء حضرته في حياتي وشربت فيه
شايا وبكيت بحرقة ؛ ودعوت فيه للميت من كل قلبي ؛
كان عزاء أبي ؛ جعله الله من الآمنين وجعل رفقته مع
الأنبياء والشهداء والصديقين والأولياء والصالحين .
??????????????
#محمودحريزالشريف
المحامي
ولعلكم تذكرونا بخير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى