غير مصنف

حميد عسيلة.. يترك قلبه في “دموع السانتاكروز”

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

حميد عسيلة.. يترك قلبه في “دموع السانتاكروز”

الكاتبة السورية: نجاح الدروبي

القُرَّاء الذين يعرفون الأديب “حميد عسيلة” سيقولون: إنَّ كتابه يُشير صراحةً إلى مثاليته التي تضيف قيمةً ثمينةً لقلمه الملتزم بالحبِّ والحياة والتَّحدِّي.
وهو أمرٌ جيِّدٌ لأنَّ الكتاب ومضات تخدم ذات الأديب، وتتغلغل في عمق وجدانه.. فكره.. تأمُّلاته.. فلسفته.. تمرُّده على سواد الواقع وأدرانه، مثيرةً شريطاً من الأسئلة الأخلاقية والإنسانية المزعجة مما يحدث على أرض الواقع، والأديب يُهدي باكورة إبداعه لروح والده، الذي لولاه لما أضيئت له شموع السانتاكروز..
اختار “حميد” أن يكون عنوان كتابه: “دموع السانتاكروز”، وهو وصف لسلسلة من التأمُّلات الوجدانيَّة، المُتمحورة حول حياته في واقع مضطرب، مع إبراز لحظات إلهامه الأدبيَّة والروحيَّة.
صدر الكتاب عن “دار بصمة” للنشر والتوزيع في مدينة فاس بالمغرب عام “2025”، مُفتتحةً بذلك كوَّة على ضوء جديد، عندما وضعت بين يدي القارئ نصوصاً شعرية ونثرية اختار لها الأديب عنوان “دموع السانتاكروز”، وهي نصوص تتنفَّس من عمق الذاكرة، وتصغي إلى دموع السانتاكروز لتقول لها:
-“ابتسمي سألتقط لك صورة شعرية..
استرخي قليلاً.. سأنثر على إزارك المنقوع في ماء الطهر بعض القصائد..
الدهشة ارتطام الحلم بالفراغ، والرعشة انكسار الموج على شاطئك الصخري..”.
كما تصغي النصوص المختارة حسب كلمة “دار بصمة” إلى “صدى البحر، وهو يهمس بوجع المدينة، فتتحوَّل الكلمات إلى أمواج، لا تكتفي باستدعاء تقاليد القول؛ بل تعيد صياغتها بروح تشرع الأبواب على أسئلة الذات.. على الظلِّ العابر في الأزقَّة.. على الجرح الذي يحمله المكان كعلامة مقاومة وحنين.
كلُّ نصٍّ في هذا العمل يكتب نفسه كوميض… يجعل من المدينة لغة تحاور المجاز والاستعارات والتشبيهات، ليصير المعنى جسراً بين الحاضر وأعماق التاريخ.
دموع السانتاكروز ليست مجرد نصوص؛ بل هي رحلة وجودية مُعقَّدة،حيث تتحاور الرموز التاريخية مع ارتجافات القلب، وحيث اللغة لا تُروى فقط، بل تُعاش ككائن من لحم الذاكرة وروح الأفق”.
الكتاب جاء في حدود الخمسة والتسعين صفحةً.. احتفى خلالها الكاتب بالمدينة/القدِّيسة: بأماكنها.. بعض شخوصها.. بعض الأحداث الفارقة التي عاشتها عن التهميش الذي يطال ما يُسمَّى المغرب العميق، أو المغرب المنسي، وهي التفاتة منه تجاه مدينة تسكنه قبل أن يسكنها.. مدينة ساحلية جنوب المغرب صغيرة في حجم زجاجة عطر كما يُشبِّهها، كانت تُسمَّى “السانتاكروز”، أي “القدِّيسة” سنوات التواجد الإسباني فيها.
وقد ترك لنا المبدع “حميد عسيلة” شذرات بليغة مُكثَّفة تدور فضاء عوالمها حول الدعوة للكمال وترميم ورتق الفجوات والجراح النفسيَّة المُضنية التي تركتها ضغوط الواقع في وجدانه.. مثل قوله:
ما الذِّي يؤلمُك بالضَّبط
أيُّها الصيادُ الحزين
سلَّتُك الفارغة
أم المياهُ الآسنة؟
أسئلة لم يطرحها “عسيلة” للإجابة عنها؛ بل لينثر نصوصاً تثير الدهشة، تاركاً أثراً لدى القارئ من خلال الإيحاء والدلالة الرمزية القوية، فغاية الأديب أن يتساءل ويدع المتلقي يُفكِّر لتبدأ عندها مرحلة التغيير والإصلاح وتحقيق الأحلام الورديَّة.
قال في الكتاب ذاته:
-“ليت الأديان تخبرنا بأنَّ الله جميل جداً..ثم تكتفي بالصمت”.
وعن الإنسان المخدوع قال:
-“بعد أن تبتلعَ الطّعم.. سوف تُدرك، مُتأخِّراً؛ بأنّك لم تكُنِ النّهر.. بل كُنت القنطرة”.
كما يجيد الأديب الاهتداء بعينيه.. يتأمَّل بحكمة ليُعَرِّفَ بدقَّة متناهية ماهيَّة الشعر والنثر، وعلاقتهما بالقارىء، حين ينسج فلسفته الفكرية المُتأثِّرة بأقلام أدباء مُتزنين مثل ناسك طيب القلب وصاحب مبادئ “كالماغوط، مظفر النواب، لوركا، بابلو نيرودا” قائلاً:
-“القارئ طفل يرغب في اللهو..
النثر مضمار ركض.. والشعر أرجوحة”.
فالشاعر يجب أن يكون جزئياً؛ مُؤرِّخاً لعصره، والتاريخ يجب ألا يكون ماهيَّةً، ولا نقاءً، ولا تثقيفاً؛ وإنما أن يكون مُتضمِّناً للبصمات البائسة للأيام التي تكسِر، ويحمل ضنك وحسرات الإنسان كي يُبشِّر بالربيع المُزهر.
المجازفة والاهتداء والحلم بعيداً عن العبودية للعادة.. كلها أمور تتلألأ في نفس الكاتب كروحه الصادقة الشفَّافة وحساسيَّته المرهفة، وكأنَّه يعرف طريقة أخرى للحبِّ لينبت الورد وينتعش المكان.. إنه يريد أن يفعل لبلدته الصغيرة ما يفعله الربيع مع الأشجار والسهول والمروج عندما تكتسي حلَّةً قشيبةً، وهو مُؤمنٌ بما يفعل حيث يمضي صلب العواطف مُمتطياً حلَّة كلّ الفصول، حزيناً وفرحاً.. راضياً ومتمرِّداً.. من أجل الإنسانيَّة.. من أجل المكان، وفوق كلِّ ذلك من أجل مبادئه وقيمه.
حميد عسيلة: إنسان وُلد للحياة.. للأرض.. للقلم والمطر، وهو يكتب مثلما يعتقد، ويفعل مثلما يقول ودون مواربة.. فيما يرى مُصمِّم الغلاف الفنان: “توفيق لبيض” بأنَّ
لمسة الأديب الشعرية المتفرِّدة قد ألهمته حسن الاختيار، فعكس شيئاً من روح النصوص وعمقها، ثم وصف الشاعر الزجال حميد عسيلة بأنه يشتغل في صمتٍ وفي الظل، ويبدع نصوصاً تنبض بالصدق والجمال!.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock