كتاب وشعراء

مثقفو الوهم: في أنطولوجيا الهذيان حين يصير خطاباً عاماً…بقلم: عماد خالد رحمة _ برلين.

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

ليست الهذيانات المتناثرة عرضاً لغوياً، ولا زلّة تعبير عابرة، بل هي — حين تتكاثر وتنتظم — علامةُ انهيارٍ أعمق: انهيار المعنى، وانفلات العقل من مسؤوليته التاريخية. فحين يهذي الجميع، لا يعود الهذيان استثناءً، بل يتحوّل إلى نظامٍ معرفيٍّ كامل، تُدار به المجتمعات، وتُصاغ به الخطابات، ويُمنح له قادةٌ وألقابٌ وشهادات.
في مقدّمة هذا المشهد يقف زعيم الهذيان، لا بوصفه شخصًا، بل باعتباره وظيفةً رمزية. هو ذاك الذي أُنجز تتويجه بشهادةٍ عليا في الوهم وملحقاته، بعد أن أتقن فنّ تحويل العبث إلى رأي، والفراغ إلى مشروع، والضجيج إلى حكمة. حوله، يهذي الجميع، لا لأنهم فقدوا عقولهم، بل لأنهم تنازلوا عنها طوعًا، واستعاروا عقولًا جاهزة، معبّأة سلفًا بلغةٍ لا تسأل، ولا تشكّ، ولا ترى.
انعقد اجتماعهم في قاعة الوهم، لا في مكانٍ محدّد، بل في فضاءٍ رمزيٍّ يعرفه كلّ من عاش زمن الانحطاط: قاعاتٌ تلمع فيها الكلمات، وتتعفّن فيها الأفكار. هناك، لم تكن الجدران صامتة؛ حتى الأعمدة تهذي، والديكورات تهذي، واللوحات المعلّقة على الجدران ملوّنة بالهذيان، لا جمال فيها سوى بهرجةٍ تخفي خواءها. حتى الطين في باطن الأرض كان يهذي، كأنّ الوباء تسلّل من العقول إلى المادة، من اللغة إلى الأشياء.
وسط هذا الطوفان، كنّا نحن — شهود الصمت المؤجَّل — نتسمّر ونهذي بدورنا، نرتّل أهازيز الوهم، نردّد ما لا نفهم، ونصفّق لما لا نؤمن به. وحده الصمت، ذاك المتلبّس بروح الجدران والخشب والطلاء، كان أكثر وعيًا منّا؛ لم يهذِ، لأنّه لم يشارك في الجريمة. فالصمت أحيانًا ليس عجزًا، بل شهادة على فداحة ما يُقال.
ثم تكلّم زعيم الوهم.
لم يكن خطابًا، بل هذيانًا منقطع النظير، أُعلن بوصفه رؤية، وأُذيع باعتباره خلاصًا. قال:
«اذهبوا إلى الخرائب لتسمعوا ما تهذي به الغربان والبوم والجرذان. اذهبوا إلى المقابر لتسمعوا ما تهذي به القبور. اسمعوا وشاركوا فرقة الوهم في ترتيل الهذيان في حلوق وآذان… ومؤخّرات الموتى».
لم يكن ذلك انحرافًا لغويًا، بل ذروة الانقلاب القيمي: حين يصبح الموت مرجعًا، والخراب مصدر معرفة، والنبش فعلًا ثقافيًا. في الخرائب والمقابر، تكدّست كتب وسجلات الهذيان، تلك التي كتبها كبار زعماء الوهم، متثقّفون لا ثقافة لهم، متعالِمون بلا علم، متفيقهون بلا فقه. هؤلاء هم الرويبضة الجدد: من درسوا كلّ كتب الهذيان، وحفظوا مهارف الوهم، لا ليكشفوه، بل ليعيدوا إنتاجه في صيغٍ أكثر إغواءً.
هكذا، تناسلت الهذيانات: صغيرة وكبيرة، فردية وجماعية، حتى صارت أرواح مجتمع الوهم تُصاغ من جديد على مقاس العبث. بل بلغ الأمر أن تواترت أخبار الموتى وهم يؤرشفون الهذيان، يضعون له عناوين وتواريخ، كأنّ الوهم صار تاريخًا رسميًا، وكأنّ الزيف اكتسب شرعية الأرشيف.
وهنا تكمن الفاجعة الكبرى:
أن يصبح الهذيان مؤسَّسًا،
والوهم مؤدلَجًا،
والسخف سياسة،
والتفاهة معرفة.
يا أمة الوهم،
يا أبناء الهذيان،
ليست الكارثة في أن يهذي بعضكم،
بل في أن تُسمّوا الهذيان عقلًا،
والوهم وعيًا،
والانقياد تفكيرًا.
استفيقوا…
فالاستفاقة لا تعني امتلاك الحقيقة،
بل استعادة السؤال.
ولا تعني الصراخ،
بل الشكّ النبيل.
ولا تبدأ بهدم قاعة الوهم،
بل بالخروج منها،
فرادى،
بقلقٍ صادق،
وعقلٍ يرفض أن يُتوَّج زعيمًا على حساب إنسانيته.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock