رؤى ومقالات

هاني مباشر يكتب …..في عز الأزمات..

لا يستهويني متابعة تسلسل الأحداث..
بقدر ما يصبح لدي شغف شديد لقراءة تاريخ مصر..

و هذه قراءة لصفحة من تاريخ مصر..

(مارس 1954)..
في خضم الصراع الذي اصبح علنيا بين كل من ..
(الرئيس محمد نجيب) و (جمال عبدالناصر الذي بدأ يصبح الحاكم الفعلي للبلاد)..

قررت القوى الوطنية إقرار 28 مارس 1954..
يوم الإضراب العام في البلاد، وشارك فيه عمال النقل، ونقابة المحامين، وتجمعات أعضاء هيئات التدريس بالجامعات المصرية، والجبهة الطلابية، وكان من المعلن أن تنضم إلى الإضراب النقابات العمالية بما فيها نقابة النقل المشترك، كان الهدف واضحًا؛ إنهاء الحكم العسكري فورًا وعدم الانتظار حتى نهاية الفترة الانتقالية في 24 يوليو 1954 كما وعد العسكر، بالإضافة إلى تشكيل حكومة مدنية انتقالية تجري الانتخابات البرلمانية، ومحاسبة المسئولين عن الانتهاكات التي تعرض لها المعتقلون في السجن الحربي.

كانت نقابة النقل المشترك هي الطريق لتحقيق كل فريق لهدفه، فريق أنصار الديمقراطية، وفريق أنصار الدولة الاستبدادية، وكانت هناك اتصالات بين القوى الديمقراطية وبين قادة نقابة النقل المشترك التي تضم عمال شركات الأتوبيس الكبرى، لإقناعهم بالانضمام لحركة الإضرابات العمالية التي ستشترك فيها معظم النقابات العمالية، التي كان الاتجاه الغالب فيها تأييد الديمقراطية، وأهمية هذه النقابة أن إضراب عمالها سيشل حركة المواصلات في العاصمة تمامًا، لكن رئيس اتحاد نقابات النقل المشترك الصاوي أحمد الصاوي توجه إلى مقر هيئة التحرير والتقى باثنين من ضباط الصف الثاني المسئولين عن النقابات العمالية، وهما الصاغ أحمد طعيمة والصاغ إبراهيم الطحاوي، وأبلغهما بمحاولات جذب النقابة إلى الإضراب المؤيد لعودة الديمقراطية.

وكانت هناك بعض القيادات النقابية الأخرى التي تؤيد ما كان يسمى “استمرار الثورة”، فتم الاتفاق على تحويل الإضراب والاعتصام من تأييد الديمقراطية إلى المطالبة بإلغاء قرارات 25 مارس، وتم اختيار “الصاوي أحمد الصاوي” زعيمًا للحركة، وساعد ضباط الصف الثاني في تنظيم الضباط الأحرار في ضرب الحركة العمالية في مقتل، فقد قام الصاغ مجدي حسنين الذي كان مشرفًا على مشروع مديرية التحرير في تحريك العاملين في المشروع إلى القاهرة للانضمام إلى القوى المعادية للديمقراطية، كذلك تحرك البكباشي أحمد أنور قائد الشرطة العسكرية بثقله ليساعد الحركة المعادية للديمقراطية، بعد أن تردد اسمه في اجتماع الجمعية العمومية للمحامين كمسئول عن الاعتداءات على المعتقلين في السجن الحربي ليحول بأي ثمن دون عودة الحياة الديمقراطية.

ولعب إعلام الدولة أقذر أدواره على الإطلاق، عندما بدأت الإذاعة المصرية تذيع بيانات صادرة عن النقابات العمالية تعلن فيها الاعتصام والإضراب عن الطعام وعن العمل حتى تتحقق مجموعة من المطالب، أولها عدم السماح بقيام الأحزاب، واستمرار مجلس قيادة الثورة في مباشرة سلطاته حتى يتم جلاء المستعمر، وتشكيل هيئة تمثل النقابات والروابط والاتحادات والجمعيات والمنظمات تساند مجلس قيادة الثورة، وتعرض عليه قرارتها قبل إصدارها، وأخيرًا عدم الدخول في معارك انتخابية. المشكلة هنا ليست في محتوى المطالب التي تعني تصفية الحياة الديمقراطية في مصر تمامًا، لكن المشكلة الحقيقية أن النقابات العمالية لم تصدر هذه البيانات، ولم توافق عليها بل لم تعرض عليها أصلًا، وإن الإذاعة المصرية شاركت في مؤامرة ضد الديمقراطية بتزوير بيانات باسم النقابات العمالية وإذاعتها في محاولة لإظهار أن الحركة العمالية ضد عودة الديمقراطية، وبدأت النقابات العمالية المؤيدة للديمقراطية تتنبه للمؤامرة التي تحاك باسمها فأصدرت مجالس إدارات عدد من نقابات العمال التي أذيعت بيانات كاذبة باسمها في الإذاعة المصرية بيانًا تعلن فيه حقيقة موقفها وتنفي ما نسب إليها كذبًا.

وفي يوم 28 مارس 1954 خرجت أغرب مظاهرات في التاريخ تهتف بسقوط الديمقراطية والدستور والأحزاب والحرية، وبحياة الجيش والثورة وعبد الناصر، ودارت المظاهرات حول البرلمان والقصر الجمهوري ومجلس الدولة وكررت هتافاتها ومنها “لا أحزاب ولا برلمان”، “تسقط الديمقراطية.. تسقط الحرية”، وفي مساء اليوم التالي 29 مارس وصل المتظاهرون إلى مقر مجلس الدولة بالجيزة، وعلا الهتاف ليشمل الدكتور عبد الرزاق السنهوري رئيس مجلس الدولة أعظم الذي كان يرأس اجتماعًا للجمعية العمومية لمجلس الدولة في هذا الوقت، وبدأ المتظاهرون ينادونه بالجاهل والخائن، ويسبونه بأقذع الألفاظ ويطالبون بسقوطه هو الآخر، وتوقفت المسيرة خارج بوابة المجلس المغلقة بسلاسل الحديد، فدخل أحد الضباط إلى مكتب السنهوري، وطلب منه الخروج إلى حديقة المحكمة لمخاطبة المتواجدين بها والتهدئة من روعهم، وبمجرد أن لمحه جموع المتظاهرين حتى اقتحموا فناء المجلس وانقضوا عليه بالسب والضرب، وكادوا أن يفتكوا به ذلك اليوم، لولا أن تلقى الضربة أحد السعاة بمجلس الدولة، ولم يتمكن من مغادرة المكان إلا بعد قدوم الصاغ صلاح سالم الذي اصطحبه إلى الخارج، وحينئذ فقط أدرك السنهوري أن الأمر لم يكن مجرد مظاهرة عادية، وقال: “حينئذ أدركت أن الأمر لم يكن مظاهرة أخاطب فيها المتظاهرين – كما ادعى الضابط – بل أمرَ اعتداء مبيتًا عليّ، وما لبث المتظاهرون أن دفعوني دفعا إلى الحديقة وتوالى الاعتداء”.

في هذا الوقت اقترح أنصار نجيب في الجيش عليه أن يتدخلوا لحسم الموقف بالقوة لصالحه ولصالح عودة الديمقراطية، اقترح عليه ذلك قائد حرسه محمد رياض، كما توافد على منزل الرئيس نجيب أعداد من الضباط المؤيدين له، منهم قائد حامية القاهرة أحمد شوقي، وأبدوا استعدادهم للتحرك ضد مجلس الثورة، لكن نجيب رفض، فقد كان يخشى من صراع داخل الجيش، وفي نفس الوقت لا يرى إعادة الديمقراطية بانقلاب عسكري، كان يراهن على قدرة الشعب وقواه الديمقراطية على حسم المعركة.

لاحقًا اعترف “الصاوي” بأنه حصل على مبلغ 4 آلاف جنيه مقابل تدبير هذه المظاهرات، إلى جانب تدبير سلسلة من التفجيرات هزت أنحاء القاهرة، ويروى خالد محيي الدين في مذكراته “والآن أتكلم” أن عبد الناصر اعترف له أنه دفع أربعة آلاف جنيه من جيبه لتدبير مظاهرات العمال الرافضة للديمقراطية، وأنه قال له “لما لقيت المسألة مش نافعة قررت أتحرك، وقد كلفني الأمر أربعة آلاف جنيه”، وهو يتفق مع ما أعترف به الصاوي، وفي موضع آخر في مذكراته يقول خالد محيي الدين أن القاهرة “شهدت في خضم أزمة مارس ستة انفجارات دفعة واحدة، منها انفجاران في الجامعة وانفجار في جروبي وآخر في مخزن الصحافة بمحطة سكة حديد القاهرة، كلها لم تتسبب في خسائر مادية، لكنها أثارت هواجس شديدة وسط الجميع حول مخاطر انفلات الوضع ومخاطر إطلاق العنان للديمقراطية دون قبضة حازمة للدولة.

وبدأ الكثيرون يشعرون أن الأمن غير مستقر وأنه من الضرورى إحكام قبضة النظام وإلا سادت الفوضى، وقد روى لي عبد اللطيف بغدادي أنه زار عبد الناصر في أعقاب هذه الانفجارات هو وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم فأبلغهم عبد الناصر أنه هو الذي دبر هذه الانفجارات لإثارة مخاوف الناس من الاندفاع في طريق الديمقراطية والإيحاء بأن الأمن قد يهتز وأن الفوضى ستسود إذا مضوا في طريق الديمقراطية”.

وفي اليوم التالي للمظاهرات، أدلى السنهوري بأقواله إلى النيابة العامة من على فراشه بالمستشفى، موجهًا الاتهام صراحة إلى الصاغ جمال عبد الناصر بتدبير الاعتداء عليه يوم 29 مارس، بسبب الخلافات الأخيرة التي وقعت بينهما، بسبب رغبة عبد الناصر في حل مجلس الدولة وتصفية رجال القضاء العاملين به، وبسبب رغبة السنهوري في إقرار سلطة قضائية مستقلة تكون هي الحكم بين الدولة الجديدة وبين الجماهير، حتى أن هذا الأخير قد ألغى العديد من القرارات الحكومية الصادرة من عبد الناصر نفسه بصفته رئيس الهيئة القضائية، وعندما ذهب عبد الناصر لزيارة السنهوري والاطمئنان عليه في المستشفى، رفض هذا الأخير دخول ناصر عليه الغرفة بتاتًا، وبالطبع حسم الصراع لصالح عبد الناصر بإخراج السنهوري من الساحة القانونية تمامًا، وكان عبد الناصر يردد بحماس شديد “إما الثورة أو الديمقراطية” طيلة الأشهر التي سبقت أزمة مارس 1954، التي انتهت باستيلاء عبد الناصر على السلطة.

في ذات يوم إضراب العمال مساءً، عقد مكتب إرشاد الإخوان اجتماعًا طالب فيه بضمانات تجنب عودة الحياة النيابية مساوئ الماضي، وفي ذات الليلة زار الهضيبي ناصر في منزله في العاشرة مساءً واجتمع به واتفقا على تأييد الإخوان للثورة مرة أخرى ومعاداة الديمقراطية، وهنا رجحت الكفة لمعسكر أعداء الديمقراطية، وفي صباح اليوم التالي 29 مارس 1954، اجتمع مجلس قيادة الثورة، وقرر تحمل المسئولية كاملة مع احتفاظ الرئيس نجيب بمنصبه رئيسًا للجمهورية، وجاءت القرارات في صيغة غائمة، تتضمن تشكيل مجلس وطني استشاري يراعى فيه تمثيل الطوائف والهيئات والمناطق المختلفة، وإرجاء تنفيذ قرارات 25 مارس 1954 إلى حين نهاية الفترة الانتقالية التي لم تنته إلى الآن، ونشرت جريدة الجمهورية بعدها على لسان الهضيبي في كلمته أمام مؤتمر الإخوان “أن الأحزاب كان عملها لوجه الشيطان”!

وفي يوم 15 أبريل بدأت الخطوات العملية لتصفية الديمقراطية ومصادرة الحريات السياسية في مصر، تلك الخطوات التي فتحت الطريق لبناء الدولة الاستبدادية التي استمرت حتى الآن، فصدر قرار من مجلس قيادة الثورة بحل مجلس نقابة الصحفيين، وتعيين مجلس إداري مؤقت لحين وضع قانون جديد للصحافة، بدعوى أن سبعة من أعضاء المجلس الاثني عشر تقاضوا مبالغ من المصاريف السرية في العهد الماضي، وطال الاتهام عددًا من الصحفيين الوطنيين الذين دافعوا باستماتة عن الديمقراطية طوال العاميين التاليين لانقلاب الضباط الأحرار، منهم حسين أبو الفتح وأبو الخير نجيب وإحسان عبد القدوس وفاطمة اليوسف ومرسي الشافعي وإبراهيم عبده وعبد الرحمن الخميسي وكامل الشناوي.

وبدا الأمر كما لو أن الربيع الديمقراطي الذي عاشت فيه مصر بين 5 و29 مارس كان فخًا لاصطياد أنصار الديمقراطية والحرية، وبدأت محكمة الثورة وهي محكمة عسكرية استثنائية كانت قد تشكلت في سبتمبر 1953، في محاكمة عددٍ من الصحفيين والساسة والضباط المناصرين للديمقراطية، وأصدرت بحقهم أحكامًا بالسجن لمدد متفاوتة، وفي يوم 17 أبريل تخلى نجيب عن رئاسة الوزراء لجمال عبد الناصر، وفي اليوم التالي نزعت سلطات الحاكم العسكري المنصوص عليها في قانون الأحكام العرفية منه وخولت لعبد الناصر، ونص قرار تعيينه حاكمًا عسكريًا على الترخيص له باتخاذ أي إجراء لازم للمحافظة على النظام والأمن في جميع نواحي الجمهورية فوق ما نص عليه القانون.

خلال شهر أبريل جرت محاولة من بعض ضباط الجيش بالتعاون مع بعض الساسة المدنيين للإطاحة بمجلس قيادة الثورة، واعتقال جمال عبد الناصر، لكن المحاولة فشلت وتمت محاكمة من قاموا بها محاكمة عسكرية، وصدر الحكم في يونيو على قائد المحاولة الضابط أحمد المصري بالسجن 15 عامًا، وفي سبتمبر صدر الحكم على اليوزباشي مصطفى كمال صدقي و20 متهمًا في محاولة انقلابية أخرى اتهم فيها أيضًا عددٌ من الشيوعيين وبعض أعضاء الأحزاب القديمة التي تم حلها، أما القائمقام أحمد شوقي الذي عرض على نجيب القبض على مجلس قيادة الثورة فقد اكتفوا بالحكم عليه بالسجن عشر سنوات بتهمة إحداث فتنة في الجيش خلال شهر مارس وأفرج عنه صحيًا فيما بعد، بعد رفض اقتراح جمال سالم بإعدام جميع ضباط المدفعية الذين اعترضوا على بعض قرارات المجلس، وتم إبعاد الضباط المؤيدين للديمقراطية عن الجيش، كما تم إبعاد خالد محيي الدين الذي كان رمزًا للقوى الديمقراطية خارج البلاد في مهام رسمية لسنوات عدة.

هكذا تم توجيه الضربات المتوالية للقوى الديمقراطية ولمعاقل النضال الوطني والديمقراطي خلال عام 1954، وهكذا انهزم الاصلاح والواقع أنها لم تكن خسارته فقط وإنما كانت خسارة لمسيرة الديمقراطية في وادي النيل و بداية نهاية “الدرة و الايقونة الغالية مصر”..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى