تقارير وتحقيقات

ايران.. تصدير الثورة إلى الدول العربية

في اواخر عام 1985 اتخذت القيادة الايرانية قرارا بإقفال ما كان يعرف بـ”مكتب حركات التحرر العالمي – دفتر سازمانهاى أزادى بخش” التابع لمؤسسة حرس الثورة الاسلامية، ونقل مهمة التواصل مع هذه الحركات الى وزارة الخارجية التي كان على رأسها في ذلك الوقت علي ولايتي في حكومة كانت برئاسة مير حسين موسوي ورئيس الجمهورية علي خامنئي.

القرار لم يدخل حيز التنفيذ الا في العام التالي والذي ترجم من خلال قرار اقصاء مهدي هاشمي عن رئاسة هذا المكتب، وهو القرار الذي شكل مؤشرا على مسار بدأ تطبيقه لازاحة الشيخ حسين علي منتظري من موقع خلافة ولي الفقيه وزعيم الثورة الامام الخميني.

بعد هذا القرار، بدأت اجراءات التضييق على مكاتب حركات التحرر التي سبق ان افتتحت مكاتب لها في العاصمة الايرانية طهران باشراف وتحت رعاية مكتب حركات التحرر في الحرس. وانتهت الى خروج هذه الحركات من ايران باستثناء الحركات العراقية والافغانية لخصوصية فيها وفي دورها ومستقبل توظيفها، والتي توضحت لاحقا في عام 1988 ثم 2003 مع العراقيين وفي عام 2001 مع الافغان. مع الاحتفاظ بسفارة فلسطين لاعتبارات خاصة الى جانب تهميش دورها في ما يتعلق بالعلاقة مع فلسطين لصالح منظمات بدأت تنمو برعاية ايرانية.

خصوصية بعض الساحات

ومنذ البداية، تميز العلاقة مع الساحة اللبنانية بخصوصية فريدة، لم تكن تمر عبر مكتب حركات التحرر، لاسباب منها قرار مبكر من مهدي هاشمي بعدم التعامل مع هذه الساحة لاعتبارات مركبة، اضافة الى ان الدخول المبكر لمؤسسة الحرس العسكرية مباشرة على خط الازمة اللبنانية كان اكثر ارتباطا بالاستراتيجية الايرانية منه بكونه ساحة لحركات التحرر، خاصة بعد عام 1982 والاجتياح الاسرائيلي وقرار ارسال قوات ايرانية للقتال في لبنان ضد الاحتلال الاسرائيلي، وهذا المشروع ايضا اصطدم بعقبتين اساسييتين:

الاولى: قرار الخميني بعدم ارسال قوات كبيرة الى لبنان تحت شعار “ايران اولا” انطلاقا من الحرب التي كانت تخوضها طهران مع نظام صدام حسين في العراق.

والثانية: قرار الرئيس السوري حينها حافظ الاسد بعدم السماح لهذه القوات والتي وصلت طلائعها الى دمشق ( نحو 4 آلاف ) مقاتل، والاجراءات التي اتخذتها الاجهزة السورية حينها بمحاصرتها ومنع تنقلها وقطع الطريق امام وصولها الى الحدود اللبنانية او العبور الى الاراضي اللبنانية في البقاع.

في المقابل، لم يعد من الممكن ان تشاهد في طهران ممثلين لحركات مثل تلك التي كانت تسعى للقيام بانقلابات “ثورية” في الجزيرة العربية حسب التعبير المستخدم حينها، او البحرين او الكويت او غيرها من الدول العربية، وغادرها ايضا ممثلون لحركات مثل ثوار اميركا اللاتينية وحركة البوليساريو وارتيريا، ولم يعد يزورها ثوار الجزائر وجماعة احمد بن بلا وحتى المصريين واليسار الاوروبي وجماعة الباسك في اسبانيا وغيرهم.

القرار الايراني في حينه بحصر العلاقة مع حركات التحرر العالمية، استثنى العلاقة مع ثلاث ساحات تمثل عمقا استراتيجيا للقيادة الايرانية، وهي الساحة الافغانية والعلاقة مع احزاب او قوات تحالف الشمال، من بينها حزب الوحدة الاسلامية (الذي رفض التعاون مع الجهات الرسمية ما دفع قيادته الممثلة بالقيادي عبدالعلي مزاري- قتلته طالبان لاحقا- للانتقال الى داخل افغانستان وانتهى الامر الى شق حزب الوحدة بين جناحين احدهما بقيادة جديدة موالية لايران لم تغادرها).

واستبقت ايران العلاقة مع الساحة العراقية من خلال تشكيل المجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق الذي كان يضم في البداية جميع الفصائل الاسلامية الموجودة في ايران بمحورية حزب الدعوة، حيث كان الناطق الرسمي باسمه السيد محمود هاشمي الشاهرودي – الذي تولى رئاسة السلطة القضائية في النظام الايراني لاحقا- القيادي في حزب الدعوة، وضم الى جانبه في القيادة السيد محمد باقر الحكيم المنتمي حينها ايضا لحزب الدعوة، الا ان الخلافات داخل الحزب، ما دفع الحكيم الى الانشقاق عن الحزب والاعلان عن تشكيل خاص به تحت اسم فليق بدر ومن ثم تولى قيادة المجلس الاعلى فتحول معه الى حزب بقيادته).

العلاقة بالساحة العراقية لم تقتصر على الفصائل الاسلامية، بل عملت الدوائر المتخصصة في حرس الثورة على بناء علاقات امنية وعسكرية وسياسية مع الاحزاب الكردية ايضا، خاصة مع الحزبين الرئيسيين الوطني الكردستاني والديمقراطي الكردستاني في اطار تشكيل ورقة ضغط على النظام العراقي الذي كان يخوض حربا ضد ايران.

وقد اتضحت اهمية الاحتفاظ بالورقتين الافغانية والعراقية في اليد الايرانية المباشرة لاحقا من خلال توظيفهما ما بعد الدخول الدولي الى افغانستان عام 2001 بعد احداث 11 سبتمبر، وبعد ابريل عام 2003 والدخول الى العراق.

التأسيس والتدريب

ومن الساحات التي شملها الاستثنناء، كانت الساحة اللبنانية، خاصة بعد ان بدأ التنظيم الذي شكلته على الساحة اللبنانية بالتبلور بشكل واضح تحت اسم “امة حزب الله” وتحوله الى منافس حقيقي لحركة امل على الساحتين الوطنية والشيعية في لبنان. هذا التطور في وضع هذا التشكيل الموالي لايران في لبنان جاء نتيجة العلاقة والعمل الذي بدأ نسجه في طهران عام 1983 واستكمل في العلاقة بين عناصر حرس الثورة الموجودين في سوريا واطراف لبنانية محددة.

في العام 1982 وعلى الرغم من قرار الخميني ومخاوف الاسد من التمدد الايراني في سوريا ولبنان، فإن وحدات من حرس الثورة الايرانية وصلت الى العاصمة السورية دمشق قدر عددها في ذلك الوقت بحوالي 4 آلاف عنصر، استقرت في منطقة السيدة زينب. فاتخذت الحكومة السورية قرارا بنقلهم الى منطقة الزبداني واقامة معكسر خاص لهم لمنع تواصلهم مع الاهالي وضبط حركة اتصالاتهم مع الاطراف اللبنانية المؤيدة لايران.

وفي اطار اتفاق بين الحكومة السورية والسفارة الايرانية في دمشق التي كان على رأسها السفير علي اكبر محتشمي پور، سمح لاعداد من هذه العناصر الايرانية بالانتقال الى منطقة البقاع – بعلبك في شرق لبنان لاقامة معسكرات تدريب للقوى والجماعات التي بدأت بتشكيل مجموعات لمقاومة الاحتلال الاسرائيلي، من بينها عناصر حركة امل وعناصر ما كان يعرف حينها بـ”المقاومة الاسلامية”.

وجاء هذا الانتقال بعد اجتماعات شهدتها العاصمة الايرانية طهران ضمت ممثلين عن وزارة الدفاع الايرانية وقيادة حرس الثورة (محسن رضائي قائد الحرس ونائبه علي شمخاني) ووزارة الخارجية ممثلة بالوزير علي ولايتي وممثلين عن مكتب زعيم الثورة الامام الخميني ورئيس منظمة التعبئة (بسيج) وانتهت في احدى جلساتها بمشاركة ممثل حركة امل في طهران ومسؤول مكتبها “السيد ابراهيم امين السيد) الذي وافق على انشاء تنظيم خاصة يتبع لايران على حساب وفي موازاة حركة امل داخل الطائفة الشيعية، وانتهت المباحثات الى تعيين “امين السيد” كاول ناطق رسمي باسم هذا التشكل الذي اتخذ اسم “امة حزب الله” .

تأسيس الدور

شكل الانسحاب الاسرائيلي الجزئي من لبنان عام 1985 فرصة امام ايران لتعزيز نفوذها وسيطرتها في لبنان من خلال تشكيل “امة حزب الله- المقاومة الاسلامية” التي تحولت الى امر واقع في مواجهة القوى الشيعية والوطنية التي تصدت للاحتلال الاسرائيلي، واستطاع هذا التشكيل او الحزب الجديد ومن خلال ممارسات معقدة امنية واجتماعية وسياسية وعسكرية من استبعاد القوى الوطنية واليسارية عن العمل المقاوم بمساعدة واضحة من الجانب السوري الذي دخل في تفاهم مع ايران بتقسيم الساحة بين فريقين شيعيين هما المحسوبين على سوريا في حركة امل بقيادة نبيه بري وتتولى جانب العمل السياسي في اطار الدولة اللبنانية ، والمحسوبين على ايران ويتفردون في تولي العمل العسكري ضد الوجود الاسرائيلي في الشريط الحدودي في اطار اجندة عسكرية تخدم اولا المفاوض السوري وتعزيز موقعه على الساحتين الدولية والاقليمية.

في العام 1993 برز بشكل واضح اهمية الدور الذي يلعبه “حزب الله” الذي اسقط من اسمه كلمة “امة” خاصة بعد مؤتمر السلام الدولي الذي عقد في مدريد عام 1992 والذي وضع الاسس العامة لعملية السلام في الشرق الاوسط وانهاء الصراع العربي الاسرائيلي، عندما وجدت ايران نفسها خارج الخارطة الجديدة لهذه المنطقة، فساهمت المعركة التي وقعت بين اسرائيل وحزب الله عام 93 في تخريب مسار التسوية او على الاقل اعاقته واعاد فرض سوريا وايران كأبرز اللاعبين على الساحة الاقليمية.

اما حرب 1996 ايضا بين حزب الله واسرائيل على ارض الجنوب اللبناني، فشكلت محاولة لتعزيز هذا الدور المشترك لهذين الحليفين، كل منهما بالاتجاه الذي يخدم مصالحه، اذ سمح للاسد ان يقدم نفسه القادر على ضبطة ايقاع المعركة والممسك بالقرار العسكري لحزب الله في لبنان وسقف عملياته العسكرية ضد اسرائيل من خلال الدور الذي لعبه في “اتفاق نيسان” ووافق عليه وزير الخارجية الاميركي وارن كريستوفر حينها.

اتفاق نسيان 1996 تضمن نصا وضع حزب الله واسرائيل في مستوى واحد، من خلال ما يمكن تفسيره بالردع المتبادل وحق الرد المتناسب على اي اعتداء يقوم به احد الطرفين.

هذا الاتفاق اخرج حزب الله من كونه حزبا لبنانيا مواليا لايران الى حزب “ذو دور اقليمي”، ما اسس او فتح الطريق امامه للعب دور اكبر من لبنان ويطال كل المحيط العربي والدولي في اطار ينسجم مع تطلعات القيادة الايراني التي تعتبر السقف السياسي والديني والثقافي للحزب من خلال تبنيه لمبدأ ولاية الفقيه ومشروعها العالمي، على الاقل فيما يتعلق بالعالم الاسلامي، وتحديدا في ما يتعلق بمشروعها المتعلق بالمنطقة.

الدور الاقليمي لحزب الله تعزز وانتقل الى مرحلة اكثر جدية وتعقيدا خلال وبعد حرب تموز 2006 مع اسرائيل، لكونها كانت حربا ايرانية وقائية في اطار معركة الملف النووي الذي وصل حينها الى حائط مسدود وارتفاع وتيرة التهديدات الغربية والاميركية بامكانية قيام حرب شاملة ضد ايران بسبب برنامجها النووي ودورها في العراق وافغانستان وفلسطين.

توزيع الادوار

عام 1997 شكل مرحلة مفصلية في ايران، تمثل في وصول محمد خاتمي الى رئاسة الجمهورية في اطار مشورع اصلاحي داخلي ودولي. ووصول خاتمي الى رئاسة الجمهورية جاء بعد دخول العلاقات الايرانية الدولية مرحلة حرجة انتهت الى اعلان الدول الاوروبية مقاطعتها لايران وسحب دبلوماسييها من هذا البلد نتيجة لاتهامها بارتكاب اعمال ارهابية في المانيا والارجنتين.

الانفتاح على العالم الغربي خاصة وعلى المحيط العربي، تطلب من ايران القيام بخطوات “تطمينية” واعادة بناء جسور الثقة، استطاع خاتمي من خلال الخطاب المتصالح الذي قدمه ان يفتح مسارات حوارية مع العالم.

في المقابل، فان النظام الايراني، الذي استطاع توظيف الخطاب الانفتاحي الذي قدمه خاتمي، عمل على اعادة بناء قدراته على الساحة الاقليمية، هذه المرة من البوابة اللبنانية، مستغلا اجواء التهدئة التي وفرتها رئاسة الاصلاحية.

من هنا كان القرار باستعادة وتحريك العمل على مسار العلاقة مع القوى السياسية والعسكرية في المنطقة، تحت اشراف سياسي مباشر من ايران، الا ان الواجهة في هذه العلاقة اسندت الى حزب الله في لبنان وامينه العام السيد حسن نصرالله، فتحولت بيروت الى محور ونقطة التقاء للقوى الفلسطينية الدائرة في الفلك الايراني مثل حماس في حينه وحركة الجهاد الاسلامي وحتى في الحوار مع السلطة الفلسطينية. اضافة الى العلاقة مع الساحات السودانية واليمنية والمصرية.

العودة الى تفعيل العمل المركب بين السياسي والامني والعسكري انطلاقا من لبنان على مختلف الساحات، سمح لايران باعادة تفعيل العمل في مكتب حركات التحرر العالمي من دون الضرورة لاعتماد الاسم نفسه، الذي سبق ان اتخذت قرار بوقف العمل به عام 1986، من دون ان تثير الشبهات المباشرة حول دورها في هذه النشاطات والاعمال التي قد تنتج عنها.

المراكمة التي استمرت على مدى ما يقارب العقود الاربعة، برزت اهمتها بالنسبة لايران في السنوات الخمسة الماضية، مع اندلاع الانتفاضات العربية، وصدور امر العلميات لحزب الله بالدخول مباشرة على خط التطورات الاقليمية لتعزيز “صمود” محور الممانعة الذي انشأته طهران في المنطقة العربية. فبرز دوره في كل من اليمن والعراق والبحرين وحتى مصر ونيجيريا، والاكثر خطورة في سوريا، حيث تحول الى محور نشاطات القوى الدائرة في الفلك الايراني وحلقة الوصل والتواصل بين هذه القوى خدمة للمشروع الاكبر الذي يعمل في اطاره.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى