رؤى ومقالات

د. نيفين عبد الجواد تكتب :بلا هوية

 

 

 

 

يتم تعريف هُوِيَّة الإنسان على إنها حقيقته المطلقة وصفاته الجوهرية التي تميزه عن غيره، وهي لا تقف عند حد تلك البطاقة التي تحمل بيانات الفرد من اسم، وتاريخ ميلاد، ومؤهل دراسي، ومهنة، وعنوان؛ ولكنها تتعدَّى ذلك إلى إحساس كل إنسان بذاته وبفرديته، وكذلك بقيمته وبتفرده وتميزه، بالإضافة إلى  قدرته على الحفاظ على ما يُعبِّر عنه وعن شخصيته المستقلة بكل ما تتميز به من فكر ومشاعر وانفعالات وما يصدر عنها من أفعال وردود أفعال وتصرفات وسلوكيات.

فإذا أصاب أي فرد الاضطراب بشأن دوره في الحياة أو فيما يختص بقدرته على مواصلة حياته أو رغبته فيها، أو إذا شعر بعدم التوافق بين ما يريده لنفسه وما يريده الآخرون له، أو بين نمط الحياة الذي يريد أن يحياه وذلك الذي يرى الآخرون أنه يجب أن يكون هو نمط حياته، فبالقطع سينشأ ما يُسمَّى بأزمة الهُوِيَّة. وبالتالي فإن مشكلة الهُوِيَّة هي بالأساس مشكلة نفسية لأنها تجربة شعورية. فمتى كان الإنسان هو نفسه ومتطابقًا مع ذاته فستتحقق هُوِيَّته الأصيلة طالما هو يفكر ويتمتع بحريته؛ إذ أن الهُوِيَّة قائمة أساسًا على الحرية لأنها إحساس بالذات والذات الإنسانية حرة، وبالمثل فإن الحرية أيضًا قائمة على الهُوِيَّة لأنها تعبير عنها.

وإذا كان الإنسان مخلوقًا حُرًّا بالأساس إلَّا إنه لابد أن يدافع على مدار حياته عن حريته تلك بكل ما أوتي من قوة وشجاعة كي لا تُسلَب منه فيجد نفسه يحيا بدونها. وكذلك عليه أن يخلق هُوِيَّته بنفسه، والأفضل أن يكون ذلك عن وعي منه لأنه سيتم حتى ولو بدون وعي كافٍ. فكل إنسان يولد ويعيش ثم بعد ذلك يعي ذاته ثم يعي العالم الخارجي المحيط به، ولا يتم ذلك الوعي في غمضة عين بل يحتاج إلى بعض الوقت، كلٌّ حسب قدرته على الإدراك والفهم والاستيعاب ومقدرته على الإجابة على كل التساؤلات التي يطرحها ذهنه من وقت لآخر والتي قد تظل مُلحَّة عليه.

فإذا ما شعر الإنسان بالإحباط واليأس بعدما فشل في تحقيق ذاته التي يريدها هو وليست التي يمليها عليه من حوله تبعًا لما هو سائد وشائع، وإذا تأكد بمرور الوقت أنه قد فقد حريته فحتمًا ستضيع هُوِيَّته فاقدًا إياها هي الأخرى؛ فإذا به قد يحصل على أعلى الدرجات العلمية ولكنه يتملكه الإحساس بعدم قدرته على توظيف ما تعلمه للارتقاء بنفسه أو بمجتمعه، ومن هنا تبدأ رحلته من أجل استعادة حريته ومن أجل البحث عن هُوِيَّته المتطابقة معه والتي تُعبر عنه بصدق غير مكترث بالظاهر بقدر ما يهتم بالجوهر.

آنذاك سينتفي اغتراب الفرد عن ذاته لأنه ما ينبغي أن يكون عليه وما يريد أن يكون عليه سيتطابق مع ما هو عليه بالفعل؛ وبالتالي لن تنقسم الذات على نفسها ما دام الإنسان قد استعاد حريته فتحرر من الخضوع والاستسلام لما يحيط به من ضغوط أو ظروف أو إملاءات، واستطاع أن يستعيد ثقته بنفسه مُستردًّا قوة إرادته وعزيمته ليقاوم أي شعور بخيبة الأمل أو الحزن والحسرة فيتمكن حينئذٍ من تحقيق ذاته.

فهل كل فرد لديه قدرة على الحركة يتحرك بالفعل بمنتهى الحيوية والنشاط والحماس؟ أم إن هؤلاء الذين لديهم وعي بهويتهم وأهدافهم وقيمة حياتهم هم فقط الأكثر قدرة على العمل الإبداعي وعلى الإنتاج الخلَّاق؟! ولماذا ترضى الكثير من المجتمعات لغالبية أفرادها بحركة ظاهرية غير فعَّالة ومُسيَّرة في واقعها وغير مُخيَّرة ولا ينتج عنها سوى المزيد من الخنوع والاستسلام بعيدًا عن اغتنام الحرية وعن إعمال العقل؟!

إن الالتهاء في الحصول على كل ما هو خارج الذات الإنسانية لن يُعوِّض الإنسان عن تحقيق ذاته بعد التمكن من تقديرها حق التقدير، وبعد اكتشاف عوالمها التي تظل محجوبة فقط عن كل من لا يعبأ بفهمها أو إدراك هويتها. ومتى استطاع الإنسان أن يتصالح مع نفسه، فيعي كنه ذاته ويحدد هُوِيَّته التي يريدها أن تتحقق على أرض الواقع؛ فسيكون من السهل عليه أن يبني وطنه هو ومن حوله ممَّن يُقدِّرون مدى خطورة المرحلة الراهنة في تاريخ العالم أجمع.

فمن يعيش بلا هُوِيَّة فردية لن يصنع أية هُوِيَّة حقيقية لبلده سوى تلك الهُوِيَّة الزائفة والزائلة التي تزينها العبارات البرًاقة وتجمَّلها المظاهر الخدّاعة.

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى