رؤى ومقالات

قراءة في بنية الصراع الطبقي/للناقد باسم الفضلي_العراق في ق.ق للقاص المصري أشرف عكاشة

{ بنية الصراع الطبقي في ق.ق.”براغيث الأسفلت”
للقاص المصري “اشرف عكاشة” }
القصة :
(( ينهمر العرق من جبينه الكالح بغبار الأسفلت، كيسه البلاستيكي يكاد يخنقه، أثقلته حبات القمح، كنسها من بطن شاحنة تنهب الطريق ، يتوارى القمر خلف غيمات كئيبة، ما عادت ترق لوجه الحقول الذي شققته التجاعيد…
أنامله تيبست على مقبض باب الشاحنة الخلفي، تتسلل إليها رعشات متتالية تنبعث من صرخات معدته الخاوية، يرمقهم بعد أن قفزوا ولم يمهله السائق حتى يستجمع شجاعته ويلحق بهم، وفجأة ينفتح الباب وراح يطوحه ، فيرتطم بجانب الشاحنة تارة ، والأخرى يحاول أن يعيد الباب مغلقاً
ملتصق، به كوشم بارز، أنامله تضعف،
الصور تنهمر تترى أمام عينيه..
وجه ذاك العجوز تهلل عندما باعه بضعة أكيال من أسمدة، جمعها من بطن شاحنة أفرغت حمولتها في دوار العمدة، ودكانه العامرة وحدها بالتقاوي والأسمدة.
وجه (سوسة) الذي رباه وهو ينتزع منه حصيلة يومه ليشترى بها سجائره…
يساقط عرقه على جرح دام يكويه؛ فساخت روحه…
كادت أصابعه أن تنفلت،
صورتهم وهم متقنفذون على أنفسهم قبيل الغروب، وفي طيات الطريق المتعرج نتوء ممدد يخدش حياء السيارات الفارهة، ويرغم الشاحنات الضخمة أن تتهادى وهي تجتازه؛ فيقفزون جميعا فجأة، ليتشبثوا بمؤخرتها، يبتسم لـ(سوسة) وهما يمنيان النفس بطبق من البليلة الساخنة.
تنبت قاماتهم عند المطب ، ينفضون عنهم التراب، وحده مازال ملتصقاً بالباب، لاحوا كأشباح في مرآة السائق، فيستشيط غضباً، يجذب الفرامل صارخاً، فيرتطم الباب، وتدوي معه طقطقة عظام الصبي ، دماء سالت من رأسه لوثت صورة الزعيم الذي طاله سباب السائق – وكان من قبل يفاخر بها على شاحنته،
يسقط …
يسقط،
تدهسه سيارة فارهة كانت تحاول المرور إلى جوار الشاحنة .
السيدة التي نزلت من السيارة الفارهة راحت بمنديل معطر تمسح دمعة فرت من أسفل نظارتها ثم أومأت لصاحبها إلى بقعة الدم التي لطخت وجه سيارتها ،
بينما العصافير التي أرقها صوت الفرملة عافت الحبات التي خالطتها الدماء. ))
الدراسة :
تعتبر عتبة النص الادبي العنوانية نصاً موازياً له ، لتعالقها معه دلاليا ، واختزان سيميائيتها بعلامات ،رموز ، وتكثيف معنوي ، موحية ، ظاهرياً او إضماراً ، بقصديته / مغزى موضوعه ، قبل الشروع بقراءته، وتسهم في فك شيفراته وإزالة الغموض عنه، فهي بذلك تمثل المفتاح الإجرائي الذّي يساعد على فتح مغاليق النّص السّيميائية ( ألغاز أحداثه ، إيقاع انساقه الدّرامية ، توتّره السّردي ،وبنيته الخطابية … الخ )،
وعتبة القصة العنوانية ” براغيث الاسفلت ” مشفرة دلالياً ،وللحصول على مفتاحيتها سأقوم بتفكيكها في ادناه:
اشارتا العنوان،ظاهرياً، متضادتان وغير متعالقتين دلالياً وكما يلي :
ـ براغيث : حشرات طفيلية تغذى على دماء الحيوان والانسان ، ناقلة لامراض خطيرة لمعيلها
والعبارة العنوانية سكتت عن نوع هذه البراغيث ،أهي مما تتطفل على الاول ام الثاني ؟
ـ الاسفلت : مادة لإكساء الشوارع ، بغية تعبيدها لسير المركبات والعجلات بسهولة وأمان ، فهي غير حية / ميتة
فيكون تضايف هاتين الاشارتين ممتنعاً لخلو(الاسفلت )من الدماء.
مما يحملنا على المضي في تفكيك هذه الاشارة للتعرف على ماتضمره من دلالة :
تفكيك الاشارتين في اعلاه،انتج تعالقاً استعمالياً لكل منهما كما في هذه المقاربة المجدولة :
.ركنا التعالق……..||..مقاربة دلالته.||…نوعه…
الاسفلت/الشارع || كاسٍ / مكسو..|| تعالق موات
الشارع/الانسان .|| مسار/ سائر…|| تعالق ميت/حي
فيكون الاسفلت ازاحة دلالية عن الشارع .
ويتوجب وجود(الدم) كمسوغ لانتفاء امتناع تضايف اشارتي العنوان .
و لإن الدم يسفك على الشارع بسبب حوادث الدهس والانقلاب التي تسببها وتتعرض لهاالمركبات ، وبحكم التعالق الاستعمالي بين الشارع والانسان ، كما في الجدول اعلاه ، يكون الدم المسفوك دماً انسانياً ، بذا عرفنا ان البراغيث هي من النوع الذي يتطفل على الانسان ، وهذا الدم لابد ان يسفك بغزارة ليتشربه الاسفلت كي يتحقق ذلك الانتفاء، ويغدو تضايف اشارتي العنوان معقولاً .
مقاربة الشارع / الحياة رمزياً :
الشارع كمسلك / مسار لانتقال الانسان مكزمانياً من نقطة الانطلاق / البداية ، الى نقطة التوقف / النهاية ، مروراً بمحطات ، مفاجآت ، موانع ،حواجز ، مخاطر ،..وغيرها مما هو متوقع / لامتوقع من احداث ، وهو بهذه الدلالات المخبوءة يقارب رمزياً الحياة . بما تعنيه من ولادةالانسان / بداية ، موته / نهاية ، ومابينهما ممايمر به في رحلته المكزمانية ( عمره ) من وقائع .
مما سلف تكون مقاربة شيفرة العنوان الدلالية :
الطفيلون المعتاشون على دم الناس
المتن :
القصة ذات خطاب تواصلي اركانه :
مرسِل(القاص ) ـ رسالة ـ سياق سردي اجتماعي ـ مرسَل اليه ( القارئ ).
سيميائية لغتها السردية تعبيرية قريبة لوعي القارئ تتكئ على :
أ ـ دلالات اشاراتها الجلية المعاني على سبيل الاستشهاد :
( كيسه البلاستيكي ، كنسها ، بطن شاحنة ، .. ،أكيال ، دوار العمدة، التقاوي ، الأسمدة ، البليلة ، طقطقة ،السيارة الفارهة، منديل معطر، لطّخت ،فرملة ،… ) بقصد وصول معنى القصة الكلي/ فكرتها بلا ايهام او غموض الى المتلقي، مع توفر عنصرِي الايحائة والرمزية المتولَّدين من تضايف بعض هذه الاشارات ، وتقابلية دلالاتها في النسيج السردي .
ب ـ طغيان صورها الواقعية الابعاد كما في :
(( وجه ذاك العجوز تهلل عندما باعه بضعة أكيال من أسمدة))/ (( لاحوا كأشباح في مرآة السائق، فيستشيط غضباً )).
بنائية الحدث القصصي :
ترتكز هذه البنائية على مفهوم الصراع،الظاهرالمعلن والباطن المسكوت عنه،بين رمزية شخصيات القصة الرئيسة والثانوية :
ـ شخصية القصة الرئيسة/ بطلها ،الصبي الذي يقص الراوي/الكاتب حكايته بحيادية بالاشارة اليه بصيغة ضمير الغائب (الهاء المتصلة )، وللصبي رمزية الامل و المستقبل الواعد .
مربع أبْعادِ هذه الشخصية:
سأستحضر صفات هذه الابعاد الاربعة من النص ،ثم مقاربتها معنوياً ،ومن بعدها احدد مكافئاتها الدلالية:
ـ البعد الزماني الداخلي / العمر : (( ..وتدوي معه طقطقة عظام الصبي )) / المقاربة :
مرحلة الطفولة المتأخرة .
المكافئ الدلالي : سلوكية غير معقلنة لعدم تكامل الوعي .
ـ البعد البدني :(( ينفتح الباب وراح يطوحه))/المقاربة: خفة الوزن
مكافئ المقاربة الدلالي : الوهن وضعف البنية
ـ البعد النفسي:(( يساقط عرقه على جرح دام يكويه؛ فساخت روحه)) / الألم العميق ، (( صرخات معدته الخاوية)) / المقاربة شدة الجوع
مكافئ المقاربتين :الشعور بالحرمان
ـ البعد الاجتماعي:(( جبينه الكالح بغبارالأسفلت )) / الكدح الممرغ بالشقاء
(( ينتزع منه حصيلة يومه ليشترى بها سجائره)) / مصادرة الجهود
(( فيقفزون جميعا فجأة، ليتشبثوا بمؤخرتها/ الشاحنات ))/ انتزاع لقمة العيش من فم الخطر المميت
(( يبتسم لـ(سوسة) وهما يمنيان النفس بطبق من البليلة الساخنة ))/ بسيط الاشياء حلم متمنى ((يسقط،تدهسه سيارة فارهة كانت تحاول المرور إلى جوار الشاحنة))/الموت ثمن سد الجوع
مكافئ المقاربات : الفقر المدقع
وباستدعاء صورة الحدث القصصي المكزمانية (( يتوارى القمر خلف غيمات كئيبة، ما عادت ترق لوجه الحقول الذي شققته التجاعيد…)) ، تتضح سوداوية ونضوب معالم حياة الطبقة الاجتماعية التي ينتمي اليها بطل قصتنا.
بتجميع المكافئات الدلالية اعلاه تتشكل بنيته الهوياتية :
سلوك غير معقلن + ضعف البنية +الحرمان +الفقر المدقع =انساناً فاقداً لأسباب الحياة الكريمة ،مفتقرا ًللتعليم.
المعادل السببي : بؤس + جهالة = تجاهل واحجام سلطوي عن القيام بمسؤولياتها
مقاربتها السوسيوسياسية : الطبقة الدنيا مهمشة سلطوياً
ويقابلها في بنية الحدث طبقة عليا ثرية يمثل شخوصها :
ـ العمدة / رمز السلطة الجائرة المحتكرة للثروة :((أكيال من أسمدة، جمعها من بطن شاحنة أفرغت حمولتها في دوار العمدة، ودكانه العامرة وحدها ))/ ” وحدها” اشارة لأنانية العمدة / السلطة
المسكوت عنه : سلطة لايهمها ان يجوع الفقراء
ـ السيدة وصاحبها / رمزية للااخلاقية وفساد هذه الطبقة ولاانسانيتها:
((السيدة التي نزلت من السيارةالفارهة راحت بمنديل معطر تمسح دمعة فرت من أسفل نظارتها ثم أومأت لصاحبها إلى بقعة الدم التي لطخت وجه سيارتها )) فالعطر ، وهو ذو دلالة ترفية ، يلازم حتى اشياءها البسيطة ( المنديل )، وهي ذات صحبة( صاحب )!! وهو غير الزوج او القريب / المقاربة : علاقة مشبوهة
ولاصلة وثيقة لدمعتها بموت من دهسته فقد يكون ما جعلها تفر من (أسفل نظارتها)مالحق ( وجه سيارتها) من تشوّهٍ بفعل(بقعة الدم)التي لطخته.
وكان لابد ان تتوسط بين تلكما الطبقتين طبقة اخرى ( الطبقة الوسطى )لاتمام مركبات بنية الهرم الاجتماعي للحدث ، واحكام حبكة صيرورته الصراعية، وهذه دلت عليها رمزية( سائق الشاحنة ).
ظاهرية الصراع والمسكوت عنه :
التمايز الطبقي خلق توتراً صراعياً مخبوءاً تحت ظاهر احداث القصةالفرعية/ مسكوتاًعنه، تمظهرت اطرافه في :
1ـ ظاهرياً :البطل يستعطي بطن شاحنة قمحاً لسد جوعه(( حبات القمح، كنسها من بطن شاحنة تنهب الطريق ))
يقابله تخمة دوار ودكان العمدة:(( شاحنة أفرغت حمولتها في دوار العمدة، ودكانه العامرة وحدها بالتقاوي والأسمدة))
المسكوت عنه :احتكار السلطة لأسباب العيش كيما تزيد من ثرائها، يكون على حساب حرمان وجوع الفقراء ، فهي سبب شقائهم .
2ـ ظاهرياً:البطل وصَحْبُه / الطبقة الدنيا ، يحاولون التعرض للشاحنات (( فيقفزون جميعا فجأة، ليتشبثوا بمؤخرتها/ مؤخرة الشاحنات الضخمة))،ولعله هو والآخر الذي معه يحصلان على مايسد جوعهما(( يبتسم لـ(سوسة) وهما يمنيان النفس بطبق من البليلة الساخنة))
المسكوت عنه : حلم الجياع بالشبع يدفعهم لمحاولة السطو على بعضٍ مما يعمر موائد الاثرياء/ الطبقة العليا
المكافئ السياسي : انتفاضة الجياع
3ـ ظاهرية دلالة سائق الشاحنة/الطبقة الوسطى: ـ غير متعاطف مع الطبقة الدنيا فهم في نظره (( لاحوا كأشباح ))في مرآته ، ولم يمهل البطل (( … حتى يستجمع شجاعته ويلحق بهم ))، ـ يتسبب بمقتل الصبي (( فيستشيط غضباً، يجذب الفرامل صارخاً، فيرتطم الباب، وتدوي معه طقطقة عظام الصبي )) ، بالاشتراك مع مترفي الطبقة العليا (( يسقط، تدهسه سيارة فارهة كانت تحاول المرور إلى جوار الشاحنة )).
/ مقاربة التجاور : التقارب النفعي / الخدمة مقابل اجر ( يماثله في القصة نقل البضائع) ،او اضطراري ( توحّد مسارهما حياتياً) .
المسكوت عنه : انحياز السائق غائياً/ مصلحياً للطبقة العليا على حساب تلك الدنيا .
ـ لامبدئيته ولاانتمائيته (( دماء سالت من رأسه لوثت صورة الزعيم الذي طاله سباب السائق – وكان من قبل يفاخر بها على شاحنته))،
المقاربة : التزلف الزائف للسلطة برفع صورة زعيمها
المسكوت عنه : مآسي الفقراء فضحت شعاراتية الطبقة الوسطى ولاصدقية ولائها
بؤرة الحدث الدلالية : يتمركز قصصد القصة في بؤرة حدثها المضمرة تحت العبارة :
(( يسقط …
يسقط ))
مقاربات بنياتها الدلالية والتركيبية :
ـ جملة فعلية (آنية ـ مستقبلية) الزمن / فعل مضارع مثبت مؤكدة بالتكرار، فاعلها ضمير الغائب المستتر رمز اليه الكاتب بثلاث نقاط بعد فعلها الاول ووضع فارزة ( ، ) بعد الثاني ليقطع الصلة ظاهرياً بينها وبين العبارة التي بعدها ( تدهسه سيارة ..)، ساؤجل امر تقديره لفقرة تالية .
ـ مكتوبة بايقاع شاقولي / عمودي لمشاكلة فعل السقوط بصرياً/ تشكيلياً من اعلى الى اسفل لتعميق وقع دلالته لدى المتلقي .
ـ جاءت العبارة بعد اسمين / الصبي والزعيم ، الاول لم يسقط وانما أُسقِط بفعل ( الفرملة) ومانتج عنها ، والثاني سقط اعتبارياً(( الزعيم الذي طاله سباب السائق ))، كما ان مقتل البطل من قبل رمزَي الطبقة العليا والوسطى بالتشارك ،اسقط القناع عن حقيقة السائق اللانتمائيته لكليهما،فهما من سقط .
خاتمة القصة (( بينما العصافير التي أرقها صوت الفرملة عافت الحبات التي خالطتها الدماء))
وبتشريح سريع لبعض اشاراتها :
ـ العصافير : رمز السلام والبراءة
ـ عافت : تركت وهجرت
ـ الحبات التي خالطتها الدماء: بالعودة لاحداث القصة هي ماكان الصبي يحملها في كيسه البلاستيكي واختلطت بدمه المسفوك.
مسكوتها الدلالي : ماجمعه من فائض موائد الاثرياء .
باستدعاء( صوت الفرملة ) تكون مقاربة دلالتها المضمرة :
السلام مطرود من حياة الفقراء فهي معجونة بالشقاء.
دلالة مقتل الصبي :
رمزية الصبي التي سبق الاشارة اليها، تنتفي بموته ، فلا يعود للطبقة الدنيا التي مثلّها في سياق الحدث القصصي ، املٌ في الخلاص ممن تلك (البراغيث )البشرية التي تعتاش على دمائهم ،متطفلة على حياتهم .
ـ باسم الفضلي العراقي
——————-

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى