رؤى ومقالات

فيلم نوّارة .. مرثية ثورة يناير

فى الثورات لا يمكن أن تكون على الحياد، فإما أن تكون مع أو ضد، فالثورة ليست مباراة لكرة القدم ” وحتى فى المباريات من الصعب أن تكون حياديا”، أقول هذا بمناسبة تصريح هالة خليل مؤلفة ومخرجة الفيلم أنها تقف على الحياد من الثورة.

تقول بطلة الفيلم “منة شلبى” عن الفيلم أنه “يكشف الفجوة الكبيرة بين الطبقات الاجتماعية فى مصر ويستعرض نماذج كثيرة من الشخصيات «نوارة» أحداها وربما تكون هى الأكثر تركيزا.. لكن جميع الشخصيات حولها تؤثر وتتأثر بها”، من الواضح أن نوارة تمثل أكثر المسحوقين إجتماعيا الذين لا ينشغلون بالأحداث التى تجرى فى محيطهم إلا فى حدود تأثيرها على حياتهم اليومية، فهم فى سعيهم لطلب الرزق لا يلتفتون إلى أى حدث كبر أم صغر، وتقدم المخرجة هالة خليل فيلما لا مباليا بالثورة الاّ من زاوية نتائجها التى تعتبر كما ظهرت فى الفيلم بأنها كارثية على جميع طبقات المجتمع فقراء وأغنياء بدرجة غير متساوية، فالأغنياء معظمهم قد هرّبوا أموالهم ولحقوا بها الى الخارج ليتمتعوا بها فى أمان، بينما الفقراء هم من ظلوا ” مضطرين” قابعين داخل الوطن لتزداد حياتهم سوادا من البؤس والفساد وعسف السلطة، فالذين يعيشون فى العشوائيات إزدادت  حياتهم عناءا فالمحل الصغير لتصليح الأجهزة الكهربائية الذى يملكه والد الزوج توقف تقريبا عن العمل بعد الثورة لتفاقم الأوضاع الإقتصادية كما لاتوجد إمكانية لبيعه لسوء الأحوال العامة، وزادت صعوبة  توصيل المياه الصالحة للشرب للأحياء الفقيرة والمهمشة بسبب تفشى فساد المحليات وكما تقول الجدة العجوز رجاء حسين ” حتى بق الميه محرومين منه وخايفه أموت ميلقوش شوية ميه يغسّلونى بيهم” وينتهى الفيلم بمزيد من القهر الأمنى للفقراء فيقبض على نوارة بتهمة سرقة قصر مخدومها ” إنتم متجوش الاّ على الفقرا” هكذا صاحت نوارة فى نهاية الفيلم، وحتى المشهد الوحيد لثوار يناير وهم يهتفون ” عيش ..حرية ..عدالة إجتماعية” جاء كئيبا ومعطلا لمرور الفقراء الذين يسعون وراء لقمة عيشهم، وكأن الثورة حدث خارجى قامت فى وطن آخر غير مصر ولا عزاء فيها  للثوار،  وحتى الفقراءالذين كانوا يحلمون طوال الفيلم “كما عشّمهم الإعلام” بعودة المليارات المنهوبة وحصولهم على نصيبهم منها “وهو ما ركزّ عليه الفيلم طويلا متندرا على محدودية تفكيرهم وليذكرهم بخيبة أملهم للحصول على أى مكسب من الثورة”، و الفساد فى مجال الخدمات الصحية لا يترك للمريض الفقير الاّ الإهانات والنوم بجانب المراحيض فى المستشفيات الحكومية ” والد الزوج” بلا علاج أو أمل فى العناية الطبية أو الرضوخ للإستغلال البشع بالمستشفيات الخاصة.

يبدأ الفيلم بفتاة فقيرة “منة شلبى فى شخصية نوارة” تحمل جركنين ثقيلين مملوئين بالمياه ” تنقلها من حنفية عمومية الى البيت” حيث تعيش فى منطقة عشوائية ” تشبه جميع مناطق الفقراء فى مصر” بينما جسدها الضئيل يتمايل تحت ثقل الجراكن، ثم تعود لتمرّ برحلة يومية طويلة وقاسية فى مختلف وسائل المواصلات “اللاإنسانية” (مسيرة عكسية لرحلة البطل فى رواية قاع المدينة ليوسف إدريس)، لتصل فى النهاية الى منطقة “كومباوند” محصّنة فى رقعة على أطراف القاهرة حيث تعمل خادمة فى فيلا أسامة بيه “لعب دوره بإقتدار الفنان محمود حميدة” والتى ورثت تلك المهنة من أمها وكأن ما يحدث فى الواقع هو أن يوّرث الفقراء فقرهم ويوّرث الأغنياء ملاينهم وقصورهم، ويعيش بالفيلا “عم عبد الله” ( جسّد الشخصية بمهارة الفنان أحمد راتب) الذى يعمل سايس سيارات البيه (تكرر نداء نوارة له بإسمه طوال الفيلم بشكل محبب) ويعطينا صورة للمصرى الطيب الصموت الذى يدرك الواقع أفضل من الجميع، بينما سيدة القصر ” شاهندة هانم” (التى تلعب دورها الفنانة شيرين رضا كشخصية محورية قوية الشكيمة، متحررة من دور المرأة اللعوب فى خريف العمر التى لا تليق بها) حيث هى الآمر الناهى فيما يخص داخل القصر من الأسرة والخدم، إبنتها تقضى أغلب وقتها فى البيسين أو بصحبة الكلب والإبن الغائب الحانق على الأوضاع يستعجلهم طوال الوقت للهروب خارج مصر.

ينتقل الكادر كثيرا بين الحياة الفخمة داخل القصر والحياة التعسة فى الحى الفقير فى كونتراست تفاعلى حى “واكبته الموسيقى التصويرية الرائعة لليال وطفة التى تحمل موسيقاها حضورا نفسيا مؤثر”، وقد جاءت مفاجأة الفيلم بالنسبة لنا هى الأداء المتميز والتلقائى للممثل أمير صلاح الدين “الزوج مع إيقاف التنفيذ” لنوارة والذى جاء دوره فى السيناريوأكثر توافقا نفسيا بين الرضا بالمقسوم والتمرد عليه أحيانا بينما العكس جاء دور منة شلبى فى شخصية نوارة سلبيا تماما من الناحية الإجتماعية كحالة متوحدة من التوافق مع واقعها وخضوعها له وكأنه قدر مكتوب عليها وأنها خلقت فى الحياة لتلعب دور الخادمة وتقبل أن تعيش هذا الدور برضا وإقتناع وكأنه مكتوب على جبينها، لكن ذلك بأية حال لا ينقص من إجادتها بل يضيف الى تلك الممثلة الواعدة والتى بهرتنا بنضجها الفنى والإدراكى وأدت الدور متفوقة على نفسها وخصوصا فى مشاهد الصراع النفسى مع الكلب وإستحقت عن جدارة لقب أحسن ممثلة عن دورها بمهرجان دبى السينمائى.

يمكن تصنيف هذا العمل كفيلم ميلودرامى إجتماعى أو من نوع الدراما السوداء يلقى نظرة عن قرب على واقع المجتمع المصرى والذى دبجته وأدارته ببراعة كاتبة قصته ومخرجته الفنانة هالة خليل ولكن لا يمكن إعتباره فيلما عن ثورة 25 يناير التى هى أكبر وأعمق من ذلك بكثير، ورغم كثرة الأعمال التوثيقية والدرامية عن تلك الثورة ونذكر منها “الشتا اللي فات” للمخرج إبراهيم البطوط، و”بعد الموقعة” للمخرج يسري نصرالله، و”فرش وغطا” للمخرج أحمد عبدالله، و “18 يوماً” وغيرها، لكن كل تلك الأعمال لم تغوص فى الواقع ولم ترصد مقدمات الثورة ولا أحداثها بشكل حقيقى، وفى ظنى أن فيلما عن ثورة يناير لم يكتب حتى الآن.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى