مروان الغفوري يكتب :التحكم في السرديات

لم يكن في سيناء من فدائيين فلسطينيين عندما قال مندوب إسرائيل في الأمم المتحدة، 1956، إن بلاده اضطرت لاحتلالها لإبعاد الفدائيين عن الحدود، ولإيقاف المجازر التي تُرتكب بحق شعب إسرائيل. كانت إسرائيل تعمل من أجل فرصة للانقضاض على شبه جزيرة سيناء، وقد أتاح لها العدوان الفرنسي- البريطاني على مصر فرصة لتحقيق ذلك. وقفت أميركا ضد العدوان، ونفذت إجراءات اقتصادية عقابية بحق بريطانيا، ووبخت إسرائيل.
كان آيزنهاور يستعد لجولة انتخابية جديدة، وكانت الدبابات الروسية تقتحم الأراضي الهنغارية. علل الرئيس الأميركي موقف بلاده بالقول بأن اللجوء إلى القوة لحل الخلافات السياسية سيضر بالأمن العالمي. من أجل إدانة الزحف السوفيتي على شرق أوروبا، وحشد العالم ضد ذلك الغزو، كان لا بد من إدانة غزو مثيل ينفذه حلفاء آيزنهاور. راحت إسرائيل تفسّر الجزء الخاص بها من الحرب، فهي لا تغزو وإنما تدافع عن حق شعب إسرائيل في الوجود. تعلمت إسرائيل من تلك الحرب أن عليها أن تلبس ثياب الضحية قبل إطلاق النار، حتى لا تضطر لخوض عمل دعائي شاق دفاعاً عن أفعالها.
في الأسابيع التي سبقت نكسة حزيران، 1967، قرر عبد الناصر إغلاق مضيق تيران بقوات محدودة بلا غطاء جوي. انطلق الإعلام الإسرائيلي في موال من البكاء والتفجع حول شعب إسرائيل الذي يتعرض للخنق والتجويع. وعندما طلب الأميركيون تقريراً يفصّل حجم الضرر الذي سيلحق بإسرائيل جراء إغلاق مضيق تيران رفض قادة تل أبيب الرد، إذ باستثناء النفط القادم من إيران فإن المبادلات التجارية مع العالم كانت تمر عبر الموانئ الأخرى. التدمير الذي ألحقته القوات الإسرائيلية بالبلدان العربية، بعد ذلك بأيام، حمل مشروعيته الأخلاقية. فلا يوجد جيش في العالم يقف متفرجاً والأعداء يخنقون شعبه ويمنعون عنه الوقود والغذاء.
إن حسباره Hasbara كلمة عبرية أثيرة وتعني في العبرية الكلاسيكية التوضيح. مع الأيام صارت تشير إلى الدبلوماسية العامة لإسرائيل، وهي لون من البروباغاندا المستدامة التي تتحكم بالسردية الطالعة من الشرق الأوسط، وتديرها بما يحقق أمرين في آن واحد: ترك صورة حسنة عن إسرائيل، وأخرى قاتمة عن شعب فلسطين. داخل نظام الحسبرة تحرص إسرائيل على تقديم نفسها كضحية تتعرض للتهديد، وأن ذلك يحدث بسبب كونها الديموقراطية الوحيدة في المنطقة، وبسبب ديانة شعبها. الفلسطيني، وفقاً للحسبرة، هو نظام فاسد في رام الله، جماعات إرهابية في غزة، ومجموعات بشرية متناثرة تلقن أولادها كراهية اليهود.
تدرك إسرائيل أهمية الرأي العام العالمي، وتبذل جهداً كبيراً في سبيل صيانة صورتها الخارجية. فهي وإن لم تنجح في أن تصير بلداً لكل يهود العالم، فقد صارت إلى “مكّة” الديانة اليهودية، ولا بد من إبقاء صورتها لامعة وملهمة في نظر العالم. الاستطلاع الذي أجراه مركز بيو، المتخصص في قياس الرأي، في العام 2019 كشف عن أن 45% من اليهود الأميركيين قد زاروا إسرائيل مرّة واحدة على الأقل في حياتهم، وأن 82 %منهم يرون العناية بإسرائيل وشؤونها مسألة تقع في صلب هويتهم اليهودية. تشمل أنشطة الصيانة، صيانة صورة إسرائيل، التدريب على وسائل الحسبرة وتقنياتها. في العام 2002، تحت إيقاع الانتفاضة الثانية، نشر الاتحاد الدولي للطلبة اليهود “كتاب حسبرة، كيف تدافع عن إسرائيل في الحرم الجامعي”. يقع الكتاب في 131 صفحة، أخذ نصفه الأول في شرح عدد من المسائل المتعلقة بالاتصال بالعالم كالكتابة، الخطابة والمراسلات. بينما انفرد الجزء الأخير منه في تلقين الطالب اليهودي المعضلة وحلّها، مثل: مسألة اللاجئين، الإرهاب، مفاوضات كامب ديفيد، الاستيطان، وسواها. في شأن الاستيطان يتوجب على الطالب اليهودي أن يردد هذه الكلمات: لا توجد مشاريع استيطانية جديدة، هناك توسع طبيعي للأسر اليهودية التي تضاعف عدد أفرادها. وأمام “الادعاء” القائل بأن وجود إسرائيل يزعزع أمن الشرق الأوسط يتعيّن على الطالب اليهودي، في أي مكان في العالم، أن يعالج المسألة بهذه الكلمات: يعاني الشرق الأوسط من اضطراب عميق بسبب الانقسام الديني بين شعوبه، وكنتيجة طبيعية للإرث الاستعماري. فضلاً عن جملة من الأزمات المعقدة كمثل الحرب العراقية- الإيرانية، الثورة الإسلامية الإيرانية، الاحتلال العراقي للكويت، الصراع الإسلامي- العلماني في مصر، وبفعل الثروة النفطية الهائلة التي يذهب ريعها للنخب الحاكمة دون شعوبها.
عكفت إسرائيل على التحكم في السرديات قبل الأزمات وبعدها. بحلول الثاني عشر من أكتوبر 2023 كانت قد ملأت يوتيوب ومنصة إكس بإعلانات مؤثرة حول المأساة التي حلّت بأطفالها. بعض تلك الإعلانات ينتهي بعبارة “نعلم أن الأطفال لا يستطيعون قراءة ما هو مكتوب هنا، ولكن الآباء يقدرون. صلوا لأجل الأسر التي فقدت أطفالها في إسرائيل”. في واحدة منها تبرز صورة ضبابية لجثة طفل مضرّج بالدماء، مع مناشدة إلى الآباء – الغربيين تحديداً- بأن يحتضنوا أطفالهم.
استخدمت إسرائيل الطفولة في صناعة الضحية منذ سنوات التأسيس المبكّرة. أثناء الحرب العالمية الثانية، بعد العام 1942، شرعت أنّا فرانك، 13 عاماً آنذاك، في تدوين يومياتها في قبو بمدينة أمستردام. في الوقت نفسه كانت يهودية أخرى تفعل الشيء نفسه من النرويج، وكانت تدعى روث ماير، فرّت إليها من مدينة فرانكفورت. ما دونته ماير أكثر شمولاً وبلاغة مما فعلته فرانك، إلا أنها كانت شابة في الثانية والعشرين حين فقدت حياتها في معسكر للنازية، لذا فقد بقيت مذكراتها مهملة حتى العام 2008، وبالكاد لاقت رواجاً. تبحث الحسبرة عن صور ثرية، غير تقليدية، لتعزيز خطابها، وهو ما توفره أنّا فرانك أكثر مما تقدمه روث ماير. من خلال حكاية أنّا فرانك استطاعت إسرائيل أن تعذب الضمير الأوروبي لما يزيد عن نصف قرن.
تعمل الظاهرة الاستعمارية، بمختلف تشكيلاتها، على الحط من إنسانية السكان الأصليين، كالإدعاء بأنهم يحملون جينات مجرمين في حمضهم النووي، كما لاحظ الكاتب النيجيري بيكو أغوزينو. شيطنة السكان الأصليين سهلت من عملية محوهم، فعندما تكون المشكلة في الجينات فإن كل وسيلة إصلاح تغدو عبثاً. في الأيام الأولى من الحرب على غزة وصف نتنياهو أطفال فلسطين بأبناء الظلام، مقابل أبناء النور في إسرائيل. تذهب إسرائيل إلى كل حرب بعد أن تبني قصة الضحية وتنشرها على نطاق واسع. الضحية لا يُتوقع منها أذى، وهكذا تتجرأ إسرائيل على الحديث حول الجيش الأكثر أخلاقية في العالم، والديموقراطية الوحيدة في المنطقة.