كتاب وشعراء

شبح الكلمات الذي لم يغب، أحمد خالد توفيق في ذكرى وفاته…محمد نبراس العميسي

شبح الكلمات الذي لم يغب، أحمد خالد توفيق في ذكرى وفاته.

الكاتب: محمد نبراس العميسي.

لا يزال اسم أحمد خالد توفيق يتردد في الأفق، كأن الرجل لم يرحل، كأنه يجلس في زاويته المعتادة، يكتب على إيقاع أنفاسه الثقيلة، ويهز رأسه بأسى وهو يرى العالم يكرر أخطاءه. كان طبيباً للجسد؛ لكنه اختار أن يعالج الروح بالكلمات، أن يمنح الأجيال حقنة مضادة للسطحية، جرعة مركّزة من الوعي الممزوج بالمتعة.

كان أحمد خالد توفيق مثل أبٍ غامض، لا يفرض وصايته على أحد، لكنه يقودك بخفةٍ نحو عالمٍ أكثر وضوحاً. كتب عن الأشباح، لكنه في الحقيقة كان يكشف لنا عن الأشباح التي تسكننا: الخوف، الهزيمة، الزيف. بأسلوبه الساخر، كان يشير إلى العيوب، لكنه لا يحاكم أحداً، بل يمنحك مرآةً نظيفة ترى فيها نفسك كما أنت، دون أقنعة.

وربما لم يكن أحمد خالد توفيق مجرد كاتب، بل كان حالة، ظاهرة في حدّ ذاته. لم يكن النخبة تفهمه، ولم يكن هو معنياً برضاهم، كان يدرك أن جمهوره الحقيقي هناك، في الأحياء الشعبية، في عيون المراهقين الذين يكتشفون القراءة للمرة الأولى، في شخصٍ أرهقه الواقع واحتاج أن يتكئ على كتاب ليواصل المسير.

لم يكن توفيق ذلك الكاتب الذي يسعى خلف الأضواء، كان أقرب إلى نجمٍ بعيد يضيء دون أن يحرق، يقف على الحافة ويراقب بصمتٍ، يعرف أن الزمن كفيل بإظهار الحقيقة. كان يؤمن أن الكتابة موقف، لكنها ليست بياناً ثورياً، وأن الفكرة إذا لم تمسّ القلب فلن تغيّر شيئًا. لهذا اختار أن يكون بسيطاً، أن يكتب بلغة تشبه الناس، أن يقدم الفلسفة في كوب شاي، لا في نبيذٍ معتّق لا يشربه إلا القلة.

ومع ذلك، كان مدركاً للثقل الذي تحمله الكتابة. لم يكن يكتب للتسلية فقط، بل كان يسرب الأفكار بين السطور، يضع السمّ في العسل، يمنح القارئ متعة الحكاية ثم يتركه ليكتشف أنه تغير دون أن يدري. كثيرون بدأوا معه لأنهم أحبوا المغامرات، لكنهم خرجوا من عالمه وهم يفكرون بطريقة مختلفة، يرون الأشياء بعمق أكبر.

ربما لهذا السبب لم يكن موته مجرد خبرٍ عابر، بل كان صدمة، كأن العالم فقد شيئاً جوهرياً، كأن الأجيال التي كبرت على كلماته شعرت فجأة باليُتم. لكنه كان قد ترك ما يكفي ليستمر أثره، ليس في الكتب فقط، بل في العقول التي أنارتها كلماته، في القلوب التي تعلمت منه أن الخيال أداة للبقاء، وأن الأدب ليس ترفًا بل وسيلة لفهم الحياة.

رحل أحمد خالد توفيق، لكن ظله بقي، يسكن الرفوف المكدسة برواياته، يتردد في اقتباساته التي باتت جزءًا من لغة الشباب، وفي تلك اللحظة الخاصة حين يبتسم قارئٌ وهو يتذكر سطرًا من “ما وراء الطبيعة”، كأن الكاتب نفسه أطلّ عليه من بين السطور وقال: “أنا هنا، لم أذهب بعيداً.”

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى