رؤي ومقالات

أشرف الصباغ يكتب :المثقف الخرتي والمرحلة الخرتية في الثقافة المصرية

“خرتي”- إله مصري قديم. على الرغم من أن الأدلة الأثرية تؤكد وجوده منذ بداية الأسرة الثانية، إلا أن دوره الأسطوري الأصلي خلال هذه الحقبة غير واضح. كان “خرتي” إلها مصريا في العالم السفلي. لم تظهر أولى الأوصاف الأسطورية لدور “خرتي” حتى الأسرة السادسة في متون الأهرام.
وظهرت أولى الصور الممثلة لـ “خرتي” في أوائل الأسرة الثانية، في عهد الملكين “حتب سخموي” و”رع نب”. ويتم تصويره عادة ككبش مستلقٍ ومحنط. وفي حالات نادرة، تم تصويره على شكل ثور بقرون. وترتبط صورته دائمًا بعلامات الرموز الهيروغليفية التي تشمل شكل حجر الذبح ورغيف الخبز، مما يعطي قراءة باسم “خرتي”.
كان خرتي يُعبد منذ أوائل الأسرة الثانية، وظهر اسمه لأول مرة على أوعية حجرية للملك “سنفر كا”. وذكرت نقوش الأوعية الحجرية من عهد الملك “بر إيب سن” لأول مرة لقب “خادم الإله خرتي” (بالمصرية: حم نتر خرتي). كان المركز الرئيسي لعبادة خرتي يقع في ليتوبوليس (أوسيم حاليا)، وتم تأسيس مركز عبادة ثانٍ لاحقًا في “نيسات” (الموقع الدقيق لها غير معروف).
كان خرتي شخصية متناقضة، تكشف متون الأهرام أنه كان يُعبد من جهة كالدليل، الذي جلب الملك المتوفى بأمان إلى “الموقع البعيد” باعتباره “المراكبي”.
وكان الناس يخشون “خرتي” باعتباره يجسد الموت، وأنه إله يعتاش على التهام قلوب الناس، مما يجعلها تتوقف عن النبض. وتكشف متون الأهرام أن خرتي كان يهاجم القلب الجسدي (حاتي) للأشخاص الذين يموتون، وليس القلب الميتافيزيقي الرمزي (إيب) كمقر للأفكار والمشاعر. لهذا السبب، تم توجيه العديد من التعاويذ والصلوات إلى خرتي في محاولة لمصادقته واسترضائه.
وكان المصريون يصلون صلوات لرع. ومن هذه الصلوات: “لتأخذ الملك المتوفى بعيدًا عن خرتي”. وكانت هذه الصلوات تضع أبانا الأكبر (الأسطوري) أوزوريس مقابل “خرتي” في شكل من أشكال المواجهة بين أبينا أوزوريس وبين الشر مجسدا في “خرتي” مبعوث “ست”، الشر الأكبر.
لم يُذكر خرتي في نصوص التوابيت الشهيرة من فترة الدولة الوسطى. وتم استبداله بالإله “أكر”، الذي أصبح المراكبي. في صلوات كتاب الموتى. وبعد ذلك ظهر اسم خرتي مرة أخرى، بوصفه “حارس يرشد المركب السماوي لرع”. ومن هنا تم تثبيت وظيفة خرتي كـ “مرشد”. وأصبح في أيامنا مرشد سياحيا. ويعتبر خرتي هو المرشد المزيف مقابل المرشد المهني العادي.
و”الخرتي” حاليا، هي كلمة يرددها المصريون، ويجمعونها في كلمة “خرتية”. وهي مهنة منتشرة منذ سنوات طويلة بدرجات وأشكال مختلفة في جميع المدن السياحية في مصر. وتطلق كلمة “خرتي” على كل من يعمل لدى “بازارات” الأنتيكات والتحف والعطور الشرقية والجلود. وأصبحت تطلق على كل من يستطيع أن يلبي كل “طلباتك”، من مخدرات ونساء وعملات أجنبية وسهرات وبيوت دعارة. وقام أشرف الصباغ مؤخرا بإطلاق مصطلح “المثقف الخرتي” لتوصيف “المرحلة الخرتية في الثقافة المصرية”.
ومهمة “الخرتي” اصطياد السائحين، فرادى أو جماعات، من شوارع القاهرة، واقناعهم بشراء بضائع من البازارات التي يتعامل معها مقابل عمولات. وفي حال موافقة السائح وشرائه شيئاً من البازار، يصبح لهذا “الخرتي” الحق في مكافأتين ماليتين، واحدة من صاحب البازار الذي باع، وأخرى من السائح الذي اشترى.
و”الخرتية” لهم لغة خاصة يتفاهمون من خلالها، ولا يختلطون بمن يعمل خارج مهنتهم من المصريين. حتى علاقاتهم العاطفية مقصورة على الأجنبيات اللواتي يتعرفون عليهن اثناء عملهم اليومي.
تجتذب مهنة “الخرتية” كل يوم وجوها جديدة من شباب الجامعات والغلابة والعاطلين عن العمل والنصابين والمحتالين واللصوص والتافهين وأولاد الأفاعي (والصفة الأخيرة أطلقها الكاتب الراحل سعد الدين حسن على أصدقائه المثقفين المصريين من قبيل المزاح). وحدث ذلك بالتوازي في ظهور ما يسمى بـ “جروبات القراءة” و”أبناء المحتوى” و”عرابين السفريات والمؤتمرات” و”سماسرة الجوائز الأدبية”، وعشرات النماذج والظواهر الأخرى التي تضم كتابا ونقادا وروائيين وشعراء.
في المقالة المقبلة سنتحدث باستفاضة عن النماذج والظواهر. وهذا المصطلح لا يوجه أي إهانة لأي شخص، لكنه يساعدنا على توصيف المرحلة و”الروبة” التي نعيش فيها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى