كتاب وشعراء

الآثار النفسية والاجتماعية للعنف ضد المرأة……بقلم ربا رباعي

دعمك للعربي اليوم كفيل باستمرارنا

يُعدّ العنف ضدّ المرأة واحداً من أكثر الانتهاكات لحقوق الإنسان انتشاراً واستمرارية عبر التاريخ. ورغم تعدّد صوره، يبقى قاسماً مشتركاً بينها جميعاً أنّها تُنتج تأثيرات نفسية عميقة، وتعيد تشكيل البنية الاجتماعية بطريقة تُكرّس التهميش وإدامة التراتبية الجندرية. تشير الأمم المتحدة إلى أنّ “امرأة من بين كل ثلاث نساء على مستوى العالم تعرّضت لشكل من أشكال العنف الجسدي أو الجنسي”؛ هذا الرقم — رغم فداحته — لا يكشف سوى قمة جبل الجليد، إذ إنّ كثيراً من حالات العنف تُدفن بالصمت والخوف والوصم الاجتماعي.
تستند هذه الدراسة إلى منهج وصفي–تحليلي–نقدي، يدمج بين التحليل النفسي والاجتماعي والمقارنات السوسيولوجية، ويستحضر شواهد أدبية وفكرية لفهم الأثر المركّب للعنف على المرأة وعلى المجتمع في آنٍ معاً.
أولاً: الآثار النفسية للعنف ضد المرأة
1. اضطرابات ما بعد الصدمة والقلق
تُظهر دراسات علم النفس الإكلينيكي أنّ العنف — ولا سيما العنف الأسري — يشكّل بيئة خصبة لنشوء اضطرابات القلق واضطراب ما بعد الصدمة. تقول الباحثة “جوديث هيرمان” في كتابها Trauma and Recovery إنّ “العنف الممنهج داخل العلاقات الحميمة يدمّر الإحساس بالذات أكثر مما يفعل العنف العابر لأنه يَصدر ممن يُفترض أن يكون مصدراً للأمان”.
ويظهر ذلك في أعراض مثل: فرط اليقظة، الكوابيس، انعدام الأمان الداخلي، وتشتت الهوية.
2. تشوّه صورة الذات وانخفاض التقدير الذاتي
لا يكتفي العنف بإيذاء الجسد؛ بل يمتد ليُعيد تشكيل صورة المرأة عن نفسها. فالتجريح المستمر، التحقير، وإشعار المرأة بأنها “أقل قيمة” — كما تذكر الباحثة العربية نوال السعداوي — يقود إلى “استبطان القهر”، أي أن تتبنّى المرأة نظرة المجتمع القامعة على أنها حقيقة.
وقد لوحظ أن النساء الناجيات من العنف غالباً يعانين من عجز مكتسب يجعل اتخاذ أبسط القرارات تحدياً وجودياً.
3. الاكتئاب والانعزال والعجز الوجداني
تربط الدراسات بين التعرّض المتكرر للعنف وبين معدلات عالية من الاكتئاب. وتشير منظمة الصحة العالمية إلى أن العنف الزوجي يرفع احتمالية الإصابة بالاكتئاب لدى المرأة بنسبة قد تصل إلى ضعفين ونصف مقارنة بغير المتعرّضات.
ويظهر الاكتئاب هنا كـ”مأوى نفسي”، تهرب إليه الضحية هرباً من واقع لا تمتلك السيطرة عليه.
ثانياً: الآثار الاجتماعية للعنف ضد المرأة
1. تفكّك الروابط الأسرية وإعادة إنتاج دائرة العنف
العنف لا ينتهي عند حدود المرأة؛ بل ينساب إلى المجال الاجتماعي للأسرة. إذ تشير الدراسات الاجتماعية إلى أن الأطفال الذين يشاهدون العنف بين الوالدين أكثر عرضة لممارسته أو قبوله مستقبلاً. وهكذا تتشكّل “سلسلة انتقالية” للعنف، تغذّيها الأعراف والتقاليد المسكوت عنها.
2. إعاقة المشاركة الاقتصادية للمرأة
تؤكد تقارير البنك الدولي أنّ النساء اللواتي يتعرّضن للعنف يفقدن ساعات عمل ضخمة سنوياً، ويتعرضن لإنهاك نفسي يعوق الإنتاجية، ما يؤثر على الاقتصاد الوطني عامة.
فالعنف هنا يتحوّل من فعل فردي إلى بنية اقتصادية مُقيّدة تسهم في خفض الناتج القومي وحرمان المجتمع من طاقات بشرية مهمّة.
3. تكريس اللامساواة الجندرية
حين تُجبر المرأة على الصمت، أو تُحمَّل مسؤولية العنف الواقع عليها، تُعاد هيكلة العلاقات الجندرية بطريقة تُكرّس الهيمنة الذكورية. وهذا يتوافق مع ما سماه بيير بورديو بـ”العنف الرمزي” الذي يشتغل بصمت لكنه ينتج آثاراً اجتماعية عميقة: قبول المرأة بوضعية التبعية على أنها “قدر”، وقبول المجتمع بها كـ“نظام طبيعي”.
ثالثاً: مقاربة تحليلية مقارنة
1. نظرة نفسية–اجتماعية متقاطعة
في التحليل النفسي، يُعالج العنف بوصفه صدمة داخلية تهزّ الذات.
في السوسيولوجيا، يُفهم العنف بوصفه نتاجاً لمؤسسات اجتماعية وثقافية تشرعنه.
وحين ندمج المنهجين، ندرك أنّ الضحية لا تتألم فقط من الفعل العنيف، بل من المنظومة التي تبرّره: قانونياً، اجتماعياً، ودينياً أحياناً.
إنّ فهم العنف خارج هذا الترابط يصبح قاصراً عن إدراك عمقه البنيوي.
2. مقاربة مقارنة بين المجتمعات العربية والغربية
رغم اختلاف السياقات، إلا أنّ ما يجمع بين المجتمعات هو أن العنف ضد المرأة غالباً ما يُنظر إليه بوصفه شأناً عائلياً.
في بعض المجتمعات العربية، يظلّ العنف محميّاً بالصمت والخصوصية العائلية، وبأعذار مثل “الحفاظ على الأسرة”.
في المجتمعات الغربية، ورغم القوة القانونية، يبقى العنف قائماً ولكن في صور أقل ظهوراً، مثل العنف النفسي والاقتصادي.
3. نقد الخطابات السائدة
يتطلب التحليل النقدي كشف الخطابات التي تُعيد إنتاج العنف:
الخطاب الإعلامي الذي يلامس الموضوع بحذر أو يختزله في الإثارة.
الخطاب الثقافي الذي يربط الرجولة بالسيطرة.
الخطاب القانوني في بعض الدول الذي يضعف من حماية المرأة أو يبرّر العنف بذرائع “التأديب”.
رابعاً: آليات المواجهة والتمكين
1. الدعم النفسي وإعادة بناء الذات
توصي الأدبيات العلاجية باستراتيجيات مثل العلاج المعرفي–السلوكي، مجموعات الدعم، ومراكز الإيواء التي توفر بيئة آمنة لإعادة بناء الهوية ومواجهة آثار الصدمة.
2. إصلاح التشريعات
تحقيق المساواة القانونية شرط أساسي. فالدول التي حرّمت العنف الأسري وشددت العقوبات شهدت انخفاضاً ملحوظاً في معدلات العنف، كما تُشير تقارير هيئة الأمم المتحدة للمرأة.
3. التغيير الثقافي
الثقافة قد تكون جزءاً من المشكلة، لكنها أيضاً مفتاح الحل.
تغيير السرديات حول الأنوثة والذكورة، وإعادة تعريف “الرجولة” بعيداً عن مفهوم السيطرة، خطوات جوهرية لتحقيق مجتمع عادل.
من هنا يمكننا القول
إنّ العنف ضد المرأة ليس حدثاً عابراً، بل بنية معقّدة تترك آثاراً نفسية عميقة وتُعيد إنتاج اختلال التوازن الاجتماعي. ولا يمكن معالجة هذه الظاهرة بمنظور فردي أو قانوني فقط؛ بل عبر رؤية شمولية تدمج بين التحليل النفسي والاجتماعي والثقافي.
وإذا كان العنف فعلاً يولد من الخوف، فإن مقاومته تبدأ من المعرفة: معرفة الذات، ومعرفة الحقوق، ومعرفة أنّ الصمت ليس قدراً.
المصادر والمراجع
عربية
نوال السعداوي، المرأة والصراع النفسي، دار الآداب، بيروت.
عزة كريم، العنف الأسري ضد المرأة في المجتمعات العربية، المجلس القومي للمرأة، القاهرة.
هيئة الأمم المتحدة للمرأة، تقارير سنوية حول العنف القائم على النوع الاجتماعي.
أجنبية
Judith Herman, Trauma and Recovery, Basic Books.
World Health Organization (WHO), Reports on Violence Against Women.
Pierre Bourdieu, Masculine Domination, Stanford University Press.
UN Women, Global Database on Violence Against Women.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى

أنت تستخدم إضافة Adblock

برجاء دعمنا عن طريق تعطيل إضافة Adblock