كتاب وشعراء

يوم حطم العفاريت منزلنا….. قصة قصيرة بقلم بسام شمس الدين

نزل علينا أقاربنا ضيوفاً في وقت لم نكن في انتظارهم أن يأتوا، كان زفاف أختي قد أُجل موعده أسبوعين، ولم يكن بالوسع إبلاغهم بهذا الخبر لأنهم يعيشون في ريفٍ ناءٍ ليس فيه خدمات الهاتف ولا مكتب بريد. أتوا بملابسهم الرثة وأطفالهم وبعض كلابهم الشرسة، ولحسن الحظ أنهم تركوا أحدهم ليعتني بأبقارهم وحميرهم حتى يعودوا، وكانت آخر مرة أتوا فيها قبل عقد من الزمن، وفي ذلك الحين أتوا قبل عرس أختي الكبرى بيوم واحد، ولم يكن بمعيتهم أطفالاً، بل كان غالبية أولادهم يافعين وفي طور الشباب، وقد استطعنا أن نستضيفهم دون مشاكل، وأذكر أنهم قضوا مدة أسبوع، وعادوا وفي قلوبنا حسرة على فراقهم.. كانوا يأتون بلا دعوة رسمية، ويرددون أنهم لا يحتاجون إلى قصاصة تافهة من الورق ليلبوا نداء أقاربهم، لكنهم على ما يبدو لم يكونوا من أقارب الدرجة الأولى، بل أظنهم أبعد من ذلك، ويمكن أن يكونوا من أبناء عمومتنا أو غير ذلك، من يدري؟ فقد ولدنا وعشنا في المدينة، بحيث لا نعلم شيئاً عن القرابة التي تربطنا بهم سوى في مثل هذي المناسبات، ولم يكن والداي يتكلمان سوى القليل عنهم، ومع ذلك كان على أبي أن يرسل إليهم خبر تأجيل العُرس بأي طريقة كانت، لأنهم على كل حال لم يكونوا بضعة رجال ونساء، بل بوسعي أن أجزم أنهم كانوا سكان قرية كاملة، وقد أتوا في خمس سيارات مكشوفة عتيقة من النوع الذي يتحمل صعود الجبال والطرق الوعرة، بحيث أصدرت هديراً مخيفاً قرب منزلنا ونفثت من مؤخراتها سحباً رمادية قبل أن تتوقف، وتلك كانت طريقتهم في إشعارنا بقدومهم، وحين سمعت أمي هديرهم وتضوعت رائحة الدخان لطمت وجهها بجزع قائلة: “يبدو أن القرويين وصلوا للتو، ألم ينذرهم أحد عن تأجيل العُرس؟”
امتقع وجه أبي، ونهض متحفزاً ماسحاً شاربيه وقال:
“أف، لقد نسيت أن أخبرهم، سأخرج لاستقبالهم، احذروا أن يشعروا بأي جفاء، إنه خطأي”
ردت أمي بسخط:
“بوسعك أن تخطئ، لأنك لن تطبخ أو تغسل الأطباق والملابس، بل ستبقى وأولئك الرجال مستلقين في المجلس منتظرين أن يأتي الطعام إليكم ”
“هذا لا يعجبني على كل حال، اخبريني، كيف بوسعنا أن نتخلص منهم؟”
أجابت بصوت خفيض خجول:
“لا أدري، أنا مشوشة الآن، وأحبذ أن تخبر الرجال بالأمر، لأنهم أكثر تفهماً”
“هذا أمر محرج فعلاً”
وخرج أبي ليستقبلهم والخجل يطل في وجهه كالشمس، وراقبناه من النافذة وهو يفتح باب الفناء باضطراب، وتناهى إلينا صوته الخجول وهو يقول ضاحكاً ليخفي حرجه:
“هيه، لقد تأجل العرس للأسف، ألم يخبركم أحدٌ بذلك؟”
صدر صوت رجل كبير في السن قائلاً:
“لا يهم، لقد أتينا لزيارتكم وجلبنا معنا بعض الهدايا، وكما ترى، نحن متعبون من السفر”
“لا بأس، بوسعكم أن تضعوها و…”
وقطع عبارته مع اندفاع مجاميع من أطفال القرويين هرعوا صارخين إلى الفناء مصدرين جلبة شديدة، بحيث دفعوه خلف البوابة، وراحوا يركضون كالعفاريت محطمين كل شيء في طريقهم، وكان مجرد رؤيتهم يثيرون تلك الفوضى الغريبة كافية للاقتناع أن إيقافهم وطردهم هو بمثابة دفاع مشروع عن النفس والممتلكات، ولا يمكن أن يلحقنا أي عار أو لوم، لكن أبي وقف مصعوقاً جامداً، حتى دلفت خلف الأطفال فرقة من النساء بملابس القرويات المهلهلة، وأخذن يصافحنه باحترام وتملق، واضطر أن ينحني بوقار ويقبل رؤوس ثلاث جدّات قصار محنيات الظهور يسرن ببطء كالسلاحف، ثم دخل مجموعة من الرجال يقودون كبشين ويحملون سلة صغيرة من الفواكه، وشنطاً حديدية، وأكياس صابون كريستال تحوي على قوارير سمن وقناني لبن وغيرها من منتجات الريف، وما لبثوا أن صافحوا كذلك ضاحكين، وساروا باتجاه المجلس الكبير دون أن يحتاجوا مرافقاً أو دليلاً من أهل المنزل، لأنهم يعرفون الطريق من قبل.
وتبسمت أمي بصعوبة، واستقبلتهن بارتباك واضح، ولم تستطع أن تنطق أو تسمع شيئاً بسبب صخب الأطفال وركضهم، وصنعنا للرجال قلة كبيرة من عصير مسحوق البرتقال ما لبثت أن أعيدت فارغة مع طلب بصنع المزيد للمسافرين العطشى، فصنعت لهم أختي نصف الكمية السابقة، بينما قمت بصنع عصير الضيفات الظامئات، ثم أخرجت ثلاثة صفوف من كؤوس الزجاج الجديدة، وسكبت العصير فيها بعناية، وصببت للأطفال في كؤوس بلاستيكية قوية لا تتحطم بسهولة، ووضعتها كلها في صحن عريض وحملتها بغباء، ومضيت لأقدمها للضيفات وأطفالهن، لكن أولئك العفاريت الصغار صرخوا وهجموا علي، وأسقطوني أرضاً بحيث طارت الكؤوس الجديدة وتحطمت على أرضية الصالة، وانغرست شظايا الزجاج في يديّ وباطن قدميّ، وامتزج الضحك بالبكاء والصراخ، وسمعت بعض أولئك الشياطين الصغار يبكون حسرة على العصير المهدور، ويطالبون بحصتهم منه، والبعض كانوا يضحكون ويصخبون، وما أغاظني أكثر هو سماعي لأصوات ضحك النساء وصوت إحدى الجدات وهي تقول إن النحس طار من المنزل مع تحطم الزجاج، وهجم الأطفال على المطبخ، وتصارعوا على بقايا العصير، وأخذوا يرمون بعضهم بالأطباق وأي شيء يجدونه في طريقهم، واتسع نطاق العراك إلى الصالة، واستخدمت الأحذية في العراك، وصرنا نفصل بين المتعاركين، ونصيح بغضب ونطرد بعضهم إلى الفناء، لنجد آخرين منهم يتعاركون بالداخل، ولم تخرج أمهاتهم لمساعدتنا، ولم يتوقفن عن الثرثرة، وبالكاد سمعت امرأة قروية ترد على احتجاج أمي قائلة: “إنهم عفاريت، دعوهم وشأنهم وحسب، وسيتوقفون في النهاية” وهذا ما حدث، ولكنا أصبنا بأحذية القرويات المتطايرة، وتعرضنا لكثير من الألم والضيق، حتى العروس أصيبت بصداع ودوار شديدين رغم أنها لم تساهم بالعمل أو الفصل بين المتعاركين، وما لبثت أن خرجت مضرجة الوجه متذمرة من أسئلة الضيفات المحرجة وتطفلهن، ولم يكد ينتهي اليوم حتى تحطم كل شيء في المنزل، حتى الأبواب وزجاج النوافذ. وفي المساء ظلت العروس مقرفصة دون دثار قرب الجدات الثلاث وست نساء راشدات احتللن غرفتها الصغيرة، ولم تستطع النوم بسبب الشخير والأنين والروائح الكريهة، وكنت وشقيقتاي متورمتي الأطراف بسبب العمل والتنظيف ومطاردة الأطفال، وبالكاد أستطيع السير، أما أمي فقد انهارت مرهقة على أرضية المطبخ بعد وجبة العشاء، ولم تستطع أن تتحر

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى