من رواية أنجيرونا للروائية القديرة ليلى مهيدرة

السكير المتمرد، صديق والدي كان مؤنسي هذه الليلة، مسح فمه كثيرا بطرف ثوبه المتهدل قبل أن يقترب مني، كان يتصنع المشي معتدلا حتى لا ألمح أنه سكران كعادته، اقترب ببطء، لم تكن لدي القوة لأبعده عن المرآب الليلة ولا للتشاجر معه وهو يتعمد التبول على السيارات، اليوم يتقدم نحوي بهدوء، يمد يدا لي للسلام مع إبعاد جسده وإدارة وجهه حتى لا اشتم رائحة الشراب المنبعثة من فمه، وقبل أن أبلغه بأني لست مستعدا لمشاجراته يرفع اليد الأخرى عاليا ليطمئنني وهو يردف:
– الله يرحم الوالد !
انهار الكرسي تحتي وانهار جسدي وجبل الصبر الذي تصنعته بداخلي وانهار دمعي، لم أستطع أن أنبس بكلمة، فقد قال كل شيء، جلس على الأرض وبدأ يحكي عن أبي وعن العالم، عن رغيف اقتسماه، عن افتقاد والدي له لما غاب أيام خلت بعد أن كسرت ساقه واضطر لأن يحدد إقامته بزقاق بالجهة الأخرى، لم يكن قد جرب إحساس أن يفتقده أحد، أن يقلق لغيابه ويسأل عنه طوب الأرض، أبي افتقده، ولم يكونا صديقين ساعتها بمعنى الكلمة، كانا رفيقيْ شارع، يقتسمان صمته وضجيجه، كل في ركنه الخاص، لكنه افتقده وسأل عنه، الغريب السكير الذي لا يدري أحد من أين بُعث في ذلك المكان بين عشية وضحاها، كان وحيدا يجوب الشارع أو يقعد ركنا ظليلا ليشرب ويشتم العالم دون أن يقاطعه أحد، الغريب الذي كسر كل قوانين علم الاجتماع فكان الصديق والرفيق والسيد والخادم لنفسه، ليثبت للجميع أن الإنسان مكتف بنفسه عن هذا العالم، يحاور نفسه، يناقشها، يعاتبها ومرات عدة يتشاجر معها، ويتوعدها بالانتقام، هو ذا رفيقي السكير، تركيبة غريبة في زمن لم يعد فيه شيء غريبا، كان ما زال بجانبي مستمر ا في الحكي ولساعات متواصلة عن آبي، عن علاقات الشارع، عن وعن وعن.. والطفل الذي كنته ساعتها، استعاد دموعه التي سالت لعلها تغسل الحقد بداخله، حكا وحكا و حكا.. سمعت ما سمعت وغبت بداخلي قدر ما استطعت، لأستفيق وقد وضع رفيقي قنينته أمامه، قنينة لم أدر من أين أتى بها، أو لعلها كانت تحت معطفه حين تقدم ليعزيني، كان ما بين النوم والصاحي، يهذي عن الدنيا الغدارة أحيانا، وأحيانا يتذكر قفشاته مع أبي ويضحك عاليا، لأول مرة لم أستطع أن أطرده رغم صوته العالي، أحس أن حزننا مشترك، وأننا نفتقد الحارس الليلي الذي كانه أبي، على نفس الدرجة ، نبكيه معا على نفس المستوى، كل سكان العمارة قدموا لي العزاء، وأظهروا المواساة لي لكن صديقي السكير كان مختلفا في تقديم عزائه، مختلفا حتى وهو يروي لي قفشاته مع والدي، شجاراتهم الأولى، مختلفا وإن كان بقنينة خمر ، هذا الكائن الليلي أعلن حزنه على أبي كما لم يفعل أحد من قبل فكيف لي أن أطرده بعد اليوم؟!
مات أبي دون أن يتم دوره في تعليمي بأصول التعامل مع الليل، مات لكنه ترك لي رفيقه ليفعل، السكير الغريب الذي اكتشفت أنه حين كان يستوطن ركنا بالمر آب أو حين كان يحاول التبول على السيارات وهو لا يستطيع حتى التوازن والوقوف على قدميه بعد شرب ليلة كاملة من الخمر الرخيص أو حين كان يغني بصوته العالي وأنا أتبعه كالمجنون، أهش بكل ما ملكت يميني عن السيارات و المرآب وحتى لا يزعج سكان العمارة بصوته النشاز ، علمت أنه ما كان يفعل ذلك إلا ليحميني غفوة الليل. غفوة، ثمنها عند الحارس الليلي حياته، سمعته يروي ذلك لأبي في المستشفى، يخبره كيف يقوم بدوره معي كاملا حتى لا أنام، فأنا حسب قوله ما زلت عظما طريا ولم أعتد نوم الشارع، و الجيلي الأصفر المشع ليلا لا يؤدي مهمته إلا وهو يتحرك ويذهب ويجيء حتى يحمي صاحبه من زوار الغفلة، هكذا قال لأبي، كان يومها أول مرة أراه فيها وهو صاح ومتزن، ليس صاحيا تماما، فأمي لحظتها وبعد ذهابه فتحت النوافذ والباب حتى تطرد رائحة الخمر، معرضة حياة أبي للخطر، لكنها مؤمنة أن الهواء بكل ما فيه من فيروسات لا يساوي أن نتهم في أعين الناس أنا وأخي بالتعاطي للخمر.
– ماذا سيقول الناس، لم يصدقوا أن أباهم رقد في الفراش ليسكر، وفي المستشفى أيضا.
كانت أمي حريصة على الصورة الاجتماعية مع أنه في رأيي لم يكن أحد ليهتم بالأمر ، كنا نعيش وأمثالنا في كوكب وباقي العالم في كوكب أخر .
أسرح بفكري بعيدا حتى إذا ما عدت وجدت مؤنسي الذي قعد على الأرض بجانبي قد غفا قليلا، غفا وتركني لليل المدينة، هو يعلم أنني كبرت كثيرا بموت أبي، كبرت لدرجة أنني لن أنام بعد اليوم.
تذكرت إبريق القهوة الذي تركه لي أحد جيراني، هو ربما ترف مرتبط بالعزاء، ترف أسود كهذا الليل ،
– ماذا ينقصك أيها الساهر على أعتاب الحزن !؟ إبريق قهوة يا سيدي.
هكذا قلت لنفسي وأنا أتناول فنجانا دافئا نسبيا، وسرحت ببصري في العمارة العالية بجانبي، النوافذ المغلقة على أصحابها، الظلام المنبعث من شقوقها، أعلم لو أن أحدهم أطل علي من فوق لن توشي به ظلمة النوافذ ، الأمر كله لا يهم فأنا هنا جالس مكاني، وصفوف السيارات بأحجامها قبالتي وخلفي ظلام هذه المدينة الموحش، أتناساه قدر المستطاع ولا شك أنه يتناساني في حزني هذا.
صديقي السكير، لا تدرك متى يستيقظ ولا متى ينام، فهو طول الوقت يلوك أغنيته الشهيرة، لكن حين يكون في زهوه المعتاد، يرفع صوته المقتنع جيدا على أنه يشبه صوت عبد الوهاب الدكالي، سمعته يقسم على ذلك مرارا، وعن أن كل من سمعه ظن أنه هو ، كان لا يجيد غيرها، تعلم عن وجوده وقربه، عن رضاه وسخطه، فهي أغنيته المعبرة عن كل مواقفه، حتى سمي بها فلا تراه إلا وهو يغني:
ما أنا إلا بشر
عندي قلب ونظر
وأنت كلك خطر
ماتبقاش تحقق فيا
ما تقولي حتى كلمة
هاااااانا
هااااانا
ضد الحكمة وراضي بالقسمة
وما كتاب فالحب عليا…
اليوم يغنيها بصوت متعب وحزين، يفصل بين المقاطع بغفوة، منهار أنا بموت أبي لكنني أحسه أنه منهار أكثر مني، الشرخ الذي حصل بداخله كبير، لقد فقد رفيق عمره، كما قال لي، هو الذي لا يهتم لأي شيء والذي لا تراه إلا مترنحا، الآن هو منهار ومنكسر، ربما لأنه لم يكن بالمكان المناسب للدفاع عن صديقه وربما لأنه أدرك أن مجتمع الليل لا يمنحك الخبرة الكافية للتعامل معه، هو فقط يستكين ويتصيد الفرصة ليخطف حياتك،أشفقت عليه وهو يتمتم بكلام غير مفهوم، رأسه الملتصقة بالكرسي الذي أجلس عليه تتمايل حتى تكاد تسقط، حاولت إيقاظه، فتح عينيه المحمرتين من أثر الشرب والحزن، مددت له كاس القهوة، نظر إليها بنصف عين ثم أدار رأسه :
– قهوة، أعود بالله
أضحكتني ردة فعله
– أأشتري السكرة بكل ما أملك وما لا أملك لأضيعها هباء بجرعة قهوة ؟
قال جملته وانتصب واقفا نسبيا ثم رحل وهو يردد أغنيته الشهيرة قبل أن يلتفت إلي بعد بضع خطوات مشيرا بيده وهو يقول :
– الله يفعو عليك أصاحبي
#روايةأنجيرونا
#ليلى_مهيدرة